تقرير تحليلي: ثورةُ سوريا وأفغانستان – أوجهُ التشابهِ والاختلافِ

1 تعليق واحد

مركز الخطابي للدراسات

تابعَتِ الأمةُ العربيةُ والإسلاميةُ -بل والعالمُ أجمعَ- الأحداثَ المهمةَ والحاسمةَ خلالَ الفترةِ الماضيةِ على الأراضي الأفغانيَّة، حيثُ استطاعَ المشروعُ الطالبانيُّ الأفغانيُّ -بعد عقدين من المقاومةِ في مواجهةِ تحالفٍ دوليٍّ بقيادةِ الولاياتِ المتحدةِ الأمريكيَّةِ- الدخولَ في مفاوضاتٍ طويلةٍ أفضَتْ إلى الانسحابِ السريعِ من أفغانستان، وتمكنَتْ طالبانُ خلالَ وقتٍ وجيزٍ ومثيرٍ للدهشةِ إسقاطَ الحكومةِ الأفغانيَّة، ودخولَ العاصمةِ كابولَ بعدَ فرارِ “الرئيسِ الأفغانيِّ أشرف غني” تاركاً وراءَهُ البلادَ بأسرِها. وبذلكَ تكونُ أفغانستانُ قد وضعَتْ نهايةً لتجربةٍ هي الأطولُ في تاريخِ الحروبِ الأمريكيَّةِ الخارجيَّةِ والأطولُ في تاريخِ أفغانستانَ المعاصر.

 لقد أثارَتِ التجربةُ الأفغانيَّة إعجابَ الكثيرِ من المتابعينَ والمهتمينَ، من كُتَّابٍ ونشطاءَ وصحفيينَ وإعلاميينَ وثوريينَ…إلخ لاسيما في العالمَيْنِ العربيِّ والإسلاميِّ على وجهِ الخصوصِ. وتعالَتِ الأصواتُ المناديةُ بأخذِ الدروسِ و العبرِ من التجربةِ الأفغانيَّة في بلادِ الربيعِ العربيِّ، خصوصاً وأنَّ النجاحَ الأفغانيَّ رافقَهُ انتكاسة لثوارِ الربيعِ العربيِّ الذين انتهجَ معظمُهُم طرقاً سلميةً في الصراعِ معَ المحتلِ أو الأنظمةِ الدكتاتوريَّةِ.

في سوريا انتهجَتِ الثورةُ السَّوريَّة مقاربةً عسكريَّةً في صراعِها مع النظامِ السوريِّ وحلفائِهِ ممَّا جعلَ منها عرضةً للمقارنةِ الدائمةِ مع الساحةِ الأفغانيَّة، فذهبَ الكثيرُ من المتابعين للساحةِ السَّوريَّة بينَ مطالبٍ باستنساخِ التجربةِ الأفغانيَّة وتطبيقِها على الواقعِ الشامي وبينَ مطالبٍ الفصائلَ الثوريةَ بتعلمِ الدرسِ الأفغانيِّ، بينما ذهبَ فريقٌ آخرَ إلى التفريقِ بينَ التجربتين لوجودِ عواملَ اختلافٍ كثيرةٍ بينَ الساحتين.

وسنحاولُ من خلالِ هذا المقالِ المختصرِ استقراءَ الساحتين (السَّوريَّة والأفغانيَّةِ)، وإلقاءِ نظرةٍ عامةٍ على الخصائصِ التي تتميزُ بها كلٌّ من سوريا وأفغانستان، لعلنا بذلك نجيبُ على عددٍ من القضايا المطروحةِ في هذا الشأنِ.

للوهلةِ الأولى ومن خلالِ نظرةٍ عامةٍ فإنَّ الواقعَ الدوليَّ للساحةِ السَّوريَّة يبدو مشابهاً للساحةِ الأفغانيَّةِ من حيثُ تدخلِ اللاعبين الدوليين والإقليميين، وتركيبةِ المجتمعِ العرقيَّةِ والدينيَّةِ المعقدةِ وانتهاجُ الخيارِ العسكريِّ ضدَّ قوى الاحتلالِ، لكنْ هناكَ بلا شكٍ عواملُ عديدةٌ، يتميزُ أحدُ البلدين بها عن الآخرِ كالموقعِ الجغرافيِّ، وتركيبةِ النظامِ الاجتماعي، وطبيعةِ العدو والثوارِ…إلخ وغيرها من العواملِ التي نستعرضُها فيما يلي:

أولاً: العنوانُ والقضيَّةُ:

على مدى عشرين عاماً، كانَ العنوانُ الطالباني في أفغانستان واحداً لا يتجزأ، القتالُ ضدَّ الاحتلالِ الأجنبي، حيثُ ركزَتْ حركةُ طالبانَ جهدها العسكري والسياسي ودعايتها الإعلامية، ضدَّ وجودِ الاحتلالِ الأمريكي لأراضيها وحشدَتْ لذلكَ كلَّ طاقتِها، كما رفضَتْ طالبانُ أي حوارٍ أو مفاوضاتٍ علنيَّةً كانت أو سريَّةً مع حكومةِ كابلَ باعتبارها حكومةً عميلةً وخادمةً للاحتلالِ الأجنبي.

بينما انشغلت الساحةُ السَّوريَّةُ والقوى الثوريةُ بعناوين متعددةٍ، فعلى الرغمِ من إجماعِ الثورةِ السَّوريَّة في بدايتها على قتالِ حكومةِ الأسدِ؛ إلا أن ظهورَ تنظيمِ الدولةِ والتدخلَ الإيراني والروسي لصالحِ نظامِ الأسدِ، والتدخلَ الأمريكي تحتَ ذريعةِ مكافحةِ الإرهابِ، أثَّر بعدَ ذلكَ بشكلٍ كبيرٍ في تشتتِ البوصلةِ، واتضح أن القضية السَّوريَّة أصبحت نوعاً ما ضبابيةً بينَ أبنائها، فمنهم من اتخذَ مسارَ أستانا طريقاً له، وأصبحت بذلك روسيا وإيران أطرافاً ضامنةً بدلَ أن تكونَ “أطرافاً محتلةً”، ومنهم من انحازَ للتدخلِ الأمريكي شمالَ شرقِ سوريا معتبراً إياه منقذاً للثورة ومخلصاً لها من براثن تنظيم الدولة. بينما اتجهَ قسمٌ آخرَ إلى اعتبارِ الوجودِ الروسي والإيراني والأمريكي احتلالاً أجنبياً لسوريا لكن دون تنفيذِ أي عملياتٍ حقيقةً تجاه قوات هذه الدول في سوريا، وهو ما عنَا عجزاً عن نقلِ النظريةِ إلى التطبيقِ.

لكنَّ الجديرَ بالذكرِ، أنَّ هذه التياراتِ ليست هي الوحيدةُ في سوريا، فالمشهدُ في سوريا فسيفسائي، ولا تكادُ تجدُ قائداً واحداً من رموزِ الثورةِ الآن يتفقُ مع غيره في توصيفِ العدو، وتحديدِ القضيةِ التي يجبُ أن نثورَ من أجلها. الأمرُ الذي فرضَ مزيداً من التعقيدِ على الأزمةِ السَّوريَّةِ، فهي اليومَ لا تقتصرُ على الأسدِ وداعميه المحتل الروسي والإيراني، كما لا يمكنُ حصرُها في الوجودِ الأمريكي مع المليشياتِ الكرديةِ شمالَ شرقِ سوريا، بل هي جزءٌ لا يتجزأُ من صراعٍ دوليٍّ وإقليميٍّ وطائفيٍّ قديمٍ بينَ السنةِ والشيعة في المنطقةِ الممتدةِ من إيران إلى العراق وسوريا ولبنان وصولاً إلى اليمن.

ثانياً: وحدةُ الجهدِ والقيادةِ:

بالنظرِ إلى القوى الثوريةِ الفاعلةِ في الساحتين السَّوريَّة والأفغانية، لا تبدو الأمورُ في سوريا مطابقةً تمامًا لما تعيشهُ الساحةُ الأفغانيَّةُ، فعلى مدى عقدين من الزمن، كانت طالبانُ الكيانَ الأبرزَ أو الأوحدَ تقريباً للمقاومة الأفغانيَّة سياسياً وعسكرياً، ولا أدلَّ على ذلك من جلوسها وحيدةً على طاولةِ المفاوضات الأخيرة مواجِهةً الوفدَ الأمريكي. وكانت رؤيتها ومشروعها السياسي واضحَ المعالمِ منذُ البدايةِ، تمثلت في المطالبةِ بانسحابِ القواتِ الأجنبيةِ وإقامةِ حكومةٍ إسلاميةٍ تنطلقُ من الشريعةِ، وتجمعُ كلَّ أطيافِ الشعبِ الأفغاني، وتحظى بعلاقاتٍ وديةٍ مع دولِ الجوارِ، إضافةً إلى التعهدِ ألا تشكلَ أفغانستانُ تهديداً لأمنِ الدولِ الأخرى.

بالمقابلِ عانت الساحةُ السَّوريَّةُ من تشظي قوى الثورةِ إلى عدةِ كياناتٍ وفي عدةِ مجالاتٍ أيضاً، ففي المجالِ العسكري كانَ الجيشُ الحرُ مُعبِراً عن مئاتِ الفصائل إن لم نقلِ الآلافَ، وكان عبارةً عن انتفاضةٍ شعبيةٍ عفويةٍ أكثرَ منهُ حركةً منظمةً تحملُ مشروعاً واضحاً، أما الفصائلُ الإسلاميةُ فهي أيضاً بالعشرات، وهي متفاوتةُ التوجهاتِ والمشاريعِ. وفي المجال السياسي أيضاً؛ هناك العديدُ من المبادراتِ السَّوريَّةِ، مثل الائتلاف والحكومة المؤقتة وحكومة الإنقاذ، وكل منها لا يتفق مع غيره في الأهدافِ والوسائلِ، وبعضها أصبحَ مجردَ أداةٍ للمساراتِ السياسيةِ الدوليةِ.

ومع ظهورِ تنظيم “الدولة الإسلامية” وتحكمَهُ بمساحاتٍ واسعةٍ من البلادِ، ساعدَ هذا الأسدَ بشكلٍ أو بأخرَعلى تقديمِ نفسهِ كمناضلٍ ضدَّ “الإرهاب”ِ، الأمرُ الذي وفرَ للأسدِ دعماً حاسماً من روسيا التي دافعت عن النظام في مجلس الأمنِ ودعمته اقتصادياً ثم عسكرياً، وكذلك إيران التي دربت واستقدمت ميليشياتٍ مسلحةً دافعت بشراسةٍ عن النظامِ، من بينها حزب الله اللبناني و”ميليشيا فاطميون”، كما انصبَ تركيزُ المجتمع الدولي بقيادةِ واشنطن على دعم الفصائل الكردية وحلفائها في مواجهة الجهاديين عوضاً عن دعم خصوم الأسد.

ثالثاً: النظامُ الاجتماعيُّ:

إحدى نقاطِ القوةِ التي تتميزُ بها الساحةُ الأفغانيَّةُ هي التركيبةُ القبليةُ والدينيةُ للمجتمع الأفغاني، فهو مجتمعٌ محافظٌ لم يتأثر بنمط الحياة الغربية، ولم تفتت المدنيةُ من تماسكه القبلي، وهو عاملٌ أساسي أسهمَ في إيجادِ نوعٍ من العصبية بينَ أنصار طالبان، بل بينَ طالبان والشعب، وكان له الفضل في تماسك الحركة وشعبيتها. كما كان امتداد هذه التركيبة “الدينية – القبلية” إلى دولٍ مثلَ باكستان مساعداً في تعزيز علاقات الحركة مع بعضِ دولِ الجوارِ. ورغمَ امتلاكِها لتنوعٍ قومي شديدٍ[1]، غيرَ أنَّ طالبانَ استطاعت -رغم أنها حركة بشتونية سنية بالأساس- بناءَ تحالفاتٍ مع الطاجيك، والأوزبك، والهزارة الشيعة.

وعلى العكسِ تماماً في سوريا، نجحَ النظامُ الطائفي على مدى عقودٍ طويلةٍ في إضعافِ كلِّ ما يتعلقُ بحواضن أي تجمع أو روابط قبلية أو دينية، وأصبح حزب البعث هو “القائد الأوحد للدولة والمجتمع السوري”، مما جعل مهمة تجميع الناس على كيانٍ واحدٍ ضدَّ النظام الحاكم شبهَ مستحيلٍ، كما نجح نظام الأسد الأب ثم الابن على مدى عقود في تغذية صراعات محلية دينية وعرقية داخل المجتمع السوري، واستعان الأسد الأب بهذه التقسيمات والصراعات نفسها لحكم البلاد منذ سبعينات القرن العشرين.

رابعاً: الخبرةُ التاريخيَّةُ:

تتميزُ أفغانستانُ بتاريخٍ طويلٍ من الحروب الأهلية والخارجية، فمنذ رحيل السوفييت عام 1989، دارت رحى العديدِ من الحروب الداخلية في البلاد. ويزيدُ عُمْرُ الكفاحِ الأفغاني اليومَ عن نصف قرن ضد القوات الأمريكية والسوفيتية، وكانت قبل ذلك حروب التحرير ضد الاحتلال البريطاني. إذاً فالشعب الأفغاني مقاتلٌ بطبعه، ومذخرٌ ومسلحٌ منذ القِدم، وخبرته بالحرب تمتد لعقودٍ طويلةٍ، وخاضَ حروبَ تحريرٍ متواصلةٍ ضدَّ الاحتلال البريطاني ثم السوفييتي ثم الأمريكي.

بينما تفتقدُ القوى الثوريةُ في سوريا هذا العامل، فلازالت الثورةُ السَّوريَّةُ مقارنةً بنظيرتها الأفغانيَّة في بدايتها ومراحلها الأولى، ولازال من المبكرِ المقارنةُ بينَ الخبرةِ الأفغانيَّةِ والسوريَّةِ في هذا الجانب، ولعل ما نشاهده اليومَ من نضوجٍ سياسي وعسكري أفغاني هو نتاجُ هزائمَ وعثراتٍ متواليةٍ شهدتها الساحةُ الأفغانيَّةُ، مما ساعدها على اكتسابِ خبرةٍ جيدةٍ في التعاملٍ مع المجتمعِ الدولي والإقليمي، ودرايةٍ بفنونِ الحربِ وتكتيكاتها.

خامساً: الموقعُ الجيوسياسيُّ:

تتمتعُ أفغانستانُ بأهميةٍ جغرافيةٍ كبيرةٍ على المستوى الإستراتيجي وكذلك السياسي، كونها تقعُ بجوارِ الصين، وباكستان، وإيران، ودول آسيا الوسطى وهي منذُ القدمِ واحدةٌ من أهمِّ الطرقِ التجارية في العالمِ. كذلك تمتلكُ أفغانستانُ إمكانياتٍ اقتصاديةً وتنمويةً هائلةً، فهي تمتلكُ ثرواتٍ كبيرةً من المواردِ الطبيعيةِ والغازِ والمعادنِ والنفطِ (بقيمةِ أكثرَ من تريليون دولار أمريكي وفقًا لبعض التقديرات).

وبالمقابل تتميزُ الساحةُ السَّوريَّةُ عن نظيرتها الأفغانيَّة وعن بقيةِ ساحاتِ الربيع العربي بموقعٍ يحظى بأهميَّةٍ عالميَّةٍ أكبرَ، فسوريا من أهم المراكز الجيوسياسية والاقتصادية بالنسبة لأطراف الصراع الدولي الرئيسية، وموقعها على ضفة البحر المتوسط الشرقية يجعلها بوابةً ساحليةً للقارة الآسيوية، تربطُ بينَ القارات الثلاث آسيا وأوروبا وأفريقيا، وهي بذلك تقع على تقاطعِ خطوطِ التبادلِ والتجارةِ بينَ هذه القارات، مما جعلها مطمعاً للدول الكبرى عبر العصور.

فضلاً عن ذلك: يشتركُ الشمالُ السوري بحدودٍ طويلةٍ مع تركيا التي تعتبر المنفذ البري إلى القارة الأوروبية، بالإضافةِ تشكلُ سوريا ممراً تجارياً حيوياً بينَ تركيا ودول الخليج العربي، كما يحدُّها من الشرق العراق، ومن الجنوب الأردن والسعودية، وهذا جعلَ من الجغرافيا السَّوريَّةِ ممراً بحرياً وبرياً حيوياً بينَ الدول المنتجة والمستهلكة لموارد الطاقة (البترول والغاز)

عدا عن ذلك كله، تحتوي سوريا على أولِ قاعدةٍ روسيةٍ عسكريةٍ خارجيةٍ منذُ تفككِ الاتحادِ السوفييتي، في منطقةِ مطارِ حميميم باللاذقية، وتمتلكُ روسيا ميزةَ التحكمِ بميناءِ طرطوسَ السوري المطلِ على البحرِ المتوسطِ​​، الذي أصبح يشكلُ قاعدةً بحريةً روسيةً إستراتيجيةً مهمةً نظراً إلى الطموحات الروسية من أجل لعبِ دورٍ جيوسياسي أكبرَ في شرق البحر الأبيض المتوسط والشرق الأوسط. كما تشكلُ سوريا في ظل نظام الأسد ركناً أساسياً في محورٍ إيراني شيعي يخدمُ التطلعاتِ الإمبراطوريةَ الإيرانيةَ، في المنطقة (العراق، سوريا، لبنان).

إن موقع سورية الجغرافي يضعها على جانب كيان وظيفي من صنيعة النظام الدولي “إسرائيل”، والذي يحظى بدعمٍ أمريكي غربي بل وعالمي أيضاً، ولطالما فضلت إسرائيل بقاءَ نظامِ الأسد خوفاً من سيطرة العناصر الإسلامية على السلطة في سوريا”، بحسب ما نقلت صحيفة معاريف في 11 كانون الأول/ديسمبر 2013 عن رئيس الأركان الإسرائيلي السابق “دان حالوتس”. ولم تضع تل أبيب يوماً خيار مصيرِ الأسدِ على الطاولة، بل على العكس قدمت مغرياتٍ بضمانٍ بقائه ورحبت رسمياً على لسان وزير دفاعها أفيغدور ليبرمان بعودةِ قواته إلى حدودِ “فض الاشتباك” في الجولان المحتل في صيف 2018، وإسرائيلُ اليومَ لا تسعى إلى تغيير مجرى الأحداث ولا يهمها إلا بقاءُ حالةِ الجمود والاستعصاء، وإبعادُ التواجدِ الإيراني عن حدودها، وإطالة أمد الأزمة في سوريا.[2]

لقد اجتمعَ في خانةِ أعداءِ الثورةِ السَّوريَّةِ خلالَ سنواتٍ ما لمْ يجتمعْ لأفغانستانَ على مدى عقودٍ طويلةٍ، وكان تدخلُ الأطرافِ الدوليةِ في سوريا خلال الأيام الأولى من الثورة أسرعَ وأعمقَ مما حصلَ في أفغانستانَ طيلةَ عقودٍ. لسنا نقللُ من أحداثِ أفغانستان الجسيمةِ، “فرغم أن أفغانستان في خضمِ الانسحابِ الأمريكي باتت في قلبِ عاصفةِ النظام الدولي، إلا أنها ليست مثيلاً للثورة السَّوريَّة، ولن تكونَ بمكانتها! فالشام هي مربط أمني دولي. ولا تجري عليها ظروفُ الوقائعِ السياسيَّةِ والأمنيَّةِ والدوليَّةِ والإقليميَّةِ، فضلاً عن المكانةِ العقديَّةِ”[3].

سادساً: “تنظيمُ الدولةِ”:

برزَ تنظيمُ الدولةِ في أفغانستان لأول مرة في عام 2015، وذلك بعد عام واحد من ظهوره في سوريا والعراق، لكنَّه تعرضَ للتقهقر بظلِ وجودِ حركةِ طالبانَ، التي رفضت التنظيم وحاربته أيضاً بهمةٍ ونشاطٍ، فتمكنت من الحفاظِ على وحدة صفها الداخلي، لعدةِ أسبابٍ لا يتسعُ المجالُ لذكرها، لكنَّ أهمَّ تلك الأسبابِ هو كونُ طالبانَ تتمتعُ بجذورٍ عميقةٍ في الثقافةِ القبليةِ المحليةِ في أفغانستان وطبيعة المذهب الديني المتبع هناك، الأمر الذي لا يتوفر داخل المجتمع السوري بسبب قضاءِ حزبِ البعثِ الحاكمِ على مراكزِ النفوذِ المجتمعي والقبلي والديني في سوريا.

توسع تنظيم الدولة في العراق وسوريا سنة 2015

واستطاعَ تنظيمُ الدولةِ الذي تواجدت مركزيته الرئيسية وقيادته الأم في سوريا والعراق من اكتساحِ الساحتين معاً، فأسهمَ تصاعدُ نفوذِ التنظيم منذ العام 2014 بإضعاف المعارضة سياسياً وعسكرياً. ومع استقطابه آلافِ المقاتلين الأجانب وتنفيذهِ هجماتٍ داميةٍ في الخارج، انصبَ تركيزُ المجتمعِ الدولي بقيادةِ واشنطن على دعم الفصائل الكردية وحلفائها لمواجهةِ خطرِ التنظيمِ، تزامناً مع تفككٍ داخلي كبيرٍ في صفوفِ فصائلِ الثوارِ.

سابعاً: الأساليبُ العسكريَّةُ:

تختلفُ تكتيكاتُ العدو وإستراتيجيتهُ، في كلٍّ من الساحتين، فنموذج الحرب الأفغانيَّة من حيث طبيعة التضاريسِ الوعرةِ وسياسة التدمير وحجم إجرام العدو وآثارهُ على الشعب الأفغاني؛ تختلف بشكلٍ كبيرٍ عن نموذجِ الحربِ السَّوريَّةِ التي فرضت في كثيرٍ من الأوقاتِ أساليبَ العملِ الجبهوي وخطوطَ الرباطِ الطويلةِ.

تتميزُ التضاريسُ في أفغانستان بالوعورة الشديدة مقارنةً بسوريا، كما أن مساحةَ البلاد الأفغانيَّة كبيرةٌ جداً، إضافةً إلى قدرةِ المقاتلين الأفغان على التملصِ والحركةِ؛ ساهمَ كلُّ هذا في جعلِ طبيعةِ الحربِ “غيرَ نظاميةً”، فلا تعتمدُ طالبانُ على خطوطِ الرباطِ الطويلةِ والهجماتِ النظاميَّةِ المباشرةِ، ولا وجودَ لمنظومةٍ أمنيَّةٍ لدى العدو معقدةٍ، مما يسمحُ للطلبةِ بالتواجدِ في قلبِ مدنِ العدو ومعاقلِهِ بسهولةٍ أكبرٍ، أضف إلى ذلك الحدودُ الأفغانيَّةُ الباكستانيَّةُ المفتوحةُ إلى حدٍّ كبيرٍ أمامَ حركةِ طالبانَ، مما ساعدَ الحركةَ على توفيرِ الملاذِ الآمنِ في باكستان، وهو الأمرُ الذي فرضَ – إضافةً لأسباب أخرى- أساليبَ عسكريةً مختلفةً للحرب عن الساحة السَّوريَّة، التي لم تحظَ بتضاريسَ وعرةٍ أو عمقٍ جغرافي كبيرٍ، وليس مقاتلوها على خبرةٍ كبيرةٍ بحربِ العصاباتِ كما هو الحالُ مع مقاتلي طالبانَ.

ثامناً: المرجعيةُ الدينيَّةُ:

ينتمي معظمُ أفرادِ طالبانَ إلى القوميةِ البشتونية السنية[4]، وتعدُّ طالبانُ حركةً إسلاميَّةً سنيَّةً تعتنقُ المذهبَ الحنفيَ – وهو أحدُ المذاهبِ الأربعةِ المعتمدةِ عند أهل السنة- كما أن معظمهم تخرجَ في مدارسَ دينيةٍ واحدةٍ، الأمرُ الذي وفَّرَ خلفيةً فكريةً موحدةً لعناصرها فجعلها حركةً متماسكةً من الداخلِ، كما أنهم مخلصون لفكرتهم ومقتنعون بها، ويرون العملَ من أجلها جهاداً في سبيلِ الله. وتتمتعُ قيادةُ الحركةِ بنوعٍ من السيطرةِ الروحيةِ على الأفرادِ الذين يعدون مخالفتهم معصيةً تستوجبُ التوبةَ.

 بينما تفتقرُ الثورةُ السَّوريَّةُ لهذا العاملِ بشكلٍ كبيرٍ بسبب تعددِ الجماعاتِ وبالتالي تعددِ مرجعيتها الفكرية والمذهبية، إضافةً إلى انتشار اللامذهبية وفقه الدليل بينَ شباب الحركاتِ الإسلاميَّةِ خاصةً، وزد على ذلك تعدد المرجعيات الدينية التي انشغلت هي الأخرى بنوعٍ من الصراعِ على السلطةِ الدينيةِ للثورة السَّوريَّة. يقولُ الدكتورُ والمختصُ في الشأنِ الأفغاني أحمد زيدان في هذا الشأن: “نجحت طبقة المشايخ والعلماء في أفغانستان وباكستان في دعم طالبان، أو الصمت عليهم، وبالمقابل فإن طالبان اعتمدت عليهم بشكلٍ كبيرٍ، مقابلَ حرصِ العلماءِ والمشايخِ في كلا البلدين على عدمِ التدخلِ في شؤون طالبان وتحركاتها على مدى عشرين عاماً، مع أن لدى بعضهم تحفظاً على بعض مواقفِ الحركةِ وأعمالها، ولكن ظلَّ العلماءُ في البلدين يلتزمون الصمتَ ويُجمّعون ولا يُفَرِّقُون، ويُعظّمون الجوامعَ، ويقلِّصون الخلافاتِ والنزاعاتِ، فلم يدخلوا في صراعاتٍ حزبيةٍ ولا فصائليةٍ، ولا في فتاوى آنيةٍ يندمون عليها، وإنما ظلوا فوق السلطة، وفوق أي تجمع سياسي أو حزبي أو فصائلي، يُرجع إليهم في المُلمّات، وفي النوازلِ الكبيرةِ، ولذلك نرى فتواهم واحدةً يتيمةً ربما بدعم طالبان في القتال، مما جعل كلمتهم وفتاواهم محترمةً ومقدرةً أمام الأفغان نظراً لقلتها وعدمِ الإكثارِ منها”.[5]

الخاتمة

حركة طالبانفصائل الثورة السَّوريَّة
تضاريسٌ وعرةٌ جداندرةُ التضاريسِ الوعرةِ
مساحةُ البلادِ واسعةٌمساحُة البلادِ محدودةٌ
مؤسساتٌ حكوميةٌ مترهلةٌ وضعيفةٌمؤسساتٌ حكوميةٌ عريقةٌ ومسيطرةٌ
عدو لديه بعض القيمِ والحدودِ الإنسانيةِعدو لا قيمةَ عنده للقيم ولحقوقِ الإنسانِ
قيادةٌ ثوريةٌ موحدةٌ ومتماسكةٌقياداتٌ متعددةٌ ومتنافسةٌ غالباً
مجتمعٌ قبليٌّ ومحافظٌمجتمعٌ مدنيٌّ مفككٌ
مؤسسةٌ دينيةٌ مذهبيةٌغيابُ المؤسسةِ الدينيةِ وانتشارُ اللامذهبيةِ
مشروعٌ سياسيٌّ واضحُ الأهدافِ والمعالمِلا توجدُ رؤيةٌ سياسيةٌ موحدةٌ
مقاتلٌ محاربٌ ومسلحٌ بطبعِهِخبرةٌ حربيةٌ محدودةٌ وندرةٌ في الأسلحةِ
حدود مفتوحةحدود مغلقة ومراقبة
الصراعُ الدوليُّ في البلادِ محدودٌتنافسٌ دوليٌّ كبيرٌ على النفوذِ
يوضحُ الجدولُ مقارنةً تقريبيةً بينَ أهمِّ الظروفِ في الثورةِ الأفغانيَّةِ والسوريَّةِ

هناك العديدُ من العواملِ الخاصةِ بأفغانستانَ دونَ غيرها، ويستحيلُ نقلُها إلى سوريا، لأنها من الظروفِ القدريَّةِ التي حبا الله بها الشعب الأفغاني، وذلك مثل: التضاريسِ الوعرةِ والاتساعِ الجغرافيِّ والطبيعةِ المقاتلةِ للأفغانِ والتماسكِ المذهبيّ والقبليِّ والموقعِ الجغرافيِّ…إلخ.

 لكنْ توجدُ في المقابلِ بعضُ العواملِ التي توفرت لدى طالبانَ ويمكنُ تحصيلُها في أيِّ جبهةٍ ثوريةٍ أخرى، مثلَ وحدةِ القيادةِ السياسيَّةِ والعسكريَّةِ والمشروعِ السياسيِّ الراشدِ والعملِ الدبلوماسي والتكتيكاتِ العسكريَّةِ غيرِ النظاميَّةِ…إلخ

إذاً فدعوى استناسخِ التجربةِ الأفغانيَّةِ كما هي في سوريا ليست إلا ضرباً من الخيالِ، فالظروفُ الاجتماعيَّةُ والسياسيَّةُ والجغرافيَّةُ والدينيَّةُ بينَ البلدين متغايرةٌ ومتمايزةٌ بطريقةٍ إذا جمعنا بينها فنحن كمن يحكمُ على نفسهِ بالفشلِ.

نعتقدُ أنَّنا يجبُ أن نتعاملَ مع النصرِ الأفغاني بقاعدةِ “الاستفادةِ وليسَ الاستنساخُ”، و”الفهمِ والتدبرِ وليسَ النسخُ واللصقُ”.

وختاماً، إنَّ النجاحَ  الأفغاني بعدَ عقودٍ طويلةٍ من الكفاحِ والنضالِ ضدَّ قوى عالميةٍ كان آخرَها الاحتلالُ الأمريكيُّ، لجديرٌ بالثناءِ والتعظيمِ أولاً، ثمَّ باستخلاصِ العبرِ والدروسِ التي تتلاءمُ مع واقعِ الثورةِ السَّوريَّةِ وغيرها من ثوراتِ الربيعِ العربي للوصول للحرية المنشودةِ واختصارِ المسافاتِ الطويلةِ التي قطعَتْهَا الساحةُ الأفغانيَّةُ حتى وصلت إلى انتصارِها هذا.


[1] : البشتون (42%) والطاجيك (27%) والأوزبك (9%) والهزارة (9%) والأيماك (4%) والتركمان (3%) والبلوش (2%) وقوميات وطوائف صغيرة أخرى (4%).

[2] إسرائيل في سوريا.. كيف أثرت تل أبيب وتأثرت بالحدث السوري؟ (syria.tv)

[3]  (الدكتور أكرم حجازي)، تغريدة على حسابه الرسمي في تويتر، 6 يوليو 2021

[4] التي تمثل نحو 38- 40% من تعداد الأفغان، البالغ نحو 39 مليون نسمة.

[5] د. أحمد زيدان عربي 21 : دروس أفغانية للثورة السَّوريَّة (arabi21.com)

المقالة السابقة
مقال رأي: السياسة الأمريكية – إطلاق العنان للدبلوماسية لتكافح الإرهاب في الولايات المتحدة: كيف سيبدو هذا؟
المقالة التالية
مقارنة بين الحالة الثورة في غزة وسوريا

1 تعليق واحد. Leave new

  • مقارنة رائعة صدرت عن خبراء في الشأن الأفغاني و الشأن السوري …..

    رد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Fill out this field
Fill out this field
الرجاء إدخال عنوان بريد إلكتروني صالح.
You need to agree with the terms to proceed