مقال رأي: انقلاب تونس

لا توجد تعليقات

مركز الخطابي للدراسات

يبدو أنَّ قطارَ الثورةِ المضادةِ المنطلقَ بعدَ ثوراتِ الربيعِ العربيِ لم يكتفِ بليبيا ومصرَ واليمنِ، بل ضمَّ تُونُسَ الآنَ لهذهِ القائمةِ، فكيفَ تمكنَ “قيسُ سعيد” من تنفيذِ الانقلابِ؟  ومن يقفُ خلفَهُ وماهي دوافعُهُ؟ وما هو مصيرُ الأحزابِ السياسيَّةِ في المستقبلِ؟

بدأ الأمرُ عندما أعلنَ موقعُ ميدل إيست آي البريطاني عن وثيقةٍ سريَّةٍ للغايةِ، قبلَ الانقلابِ بشهريْنِ، تتحدثُ عن اعتقالِ سياسيين كبارٍ، وتدبيرِ انقلابٍ في تُونُسَ بالرجوعِ إلى المادةِ ثمانين من الدستورِ التونسيِّ، وأشارت الوثيقةُ إلى أنَّ هذا الانقلابَ عبارةٌ عن (انقلابٍ دستوريٍّ) لينفردَ “قيس سعيد” بالسلطةِ تمامًا، وجاءَ في الوثيقةِ، أنه بعدَ استدراجِ رئيسِ الوزراءِ “هشام المشيشي”  ورئيسِ مجلسِ النوابِ “راشد الغنوشي”  إلى القصرِ واحتجازِهما هناك، سيُعيَّنُ اللواءُ خالد اليحياوي وزيراً للداخلية بالإنابة، وكانَ هذا أولَ مؤشرٍ على حدوثِ الانقلابِ، وبالفعلِ هذا ما حدثَ إلا أنَّ رئيسَ حزبِ النهضةِ راشد الغنوشي كانت حالتُهُ الصحيَّةُ حرجةً فلم يتمَّ اعتقالَهُ.

كما قامَ قبلَها “قيس سعيد” في نيسان 2021 بزيارةِ مصرَ ومقابلةِ “عبدالفتاحِ السيسي” في أولِ زيارةٍ رسميَّةٍ لرئيسٍ تونسيٍّ إلى مصرَ بعدَ الانقلابِ، وقامَ أيضاً الرئيسُ التونسيُ بزيارةِ فرنسا يوم 22 يونيو 2021 ، ثُمَّ أمرَ بتعطيلِ تشكيلِ اللجنةِ الدستوريَّةِ المعنيٌّةِ بتفسيرِ الدستورِ، وهذا ما مكَّنَه  بعد ذلك من تفسيرِ الدستورِ كما يريدُ، بعدَ الحصولِ على دعمِ المُؤسّستين الأمنيّةِ والعسكريّةِ، وهو ما يُفسِرُ ثقتَهُ الكبيرةَ عندَ تحذيرِهِ أنه: “من سيطلقُ رصاصةً، سيردُّ عليه بوابلٍ من الرصاصِ”.!!!!!!!

كلُّ هذهِ الخطواتِ أدت في النهايةِ إلى الانقلابِ، وبالفعلِ قامَ الرئيسُ التونسيُّ “قيس سعيد” بعدها في 25 يوليو/تموز  بإصدارِ عدةِ قراراتٍ طبقاً للمادة ثمانين حسبَ زعمهِ، بعدَ اجتماعهِ بقياداتٍ عسكريَّةٍ وأمنيَّةٍ، فأعفى رئيسَ الحكومةِ “هشام المشيشي” من منصبهِ، كما جمدَ عملَ واختصاصاتِ البرلمانِ لمدّةِ ثلاثين يوماً من تاريخِ إصدارِ القراراتِ، ورفعَ الحصانةَ البرلمانيَّةَ عن كلِّ أعضاءِ مجلسِ نوابِ الشعبِ، و تولى بنفسِهِ السلطةَ التنفيذيَّةَ بمساعدةِ حكومةٍ يرأسُها رئيسُ حكومةٍ يقومُ هو بتعيينها، وأعفى وزراءَ الداخليةِ والعدلِ والدفاعِ، وأعلنَ حظرَ التجولِ الليلي في جميعِ أنحاءِ البلادِ لمدةِ شـهرٍ، ثُمَّ بعدَ ذلكَ قامَ بإعفـاءِ وزيـري الماليـةِ وتكنولوجيـا الاتصـالِ مـن مهامهـما، وأثناءَ إعلانهِ لهذه القراراتِ حضرت معه كوادرُ عليا في الجيشِ أثناءَ إلقاءِ خطابه، مما يوحي باستمالةِ الجيشِ والقياداتِ الأمنيَّةِ لقراراتِ الرئيسِ، وبالفعلِ انتشرت الوحداتُ العسكريَّةُ إثرَ قراراتهِ أمامَ البرلمانِ ومقرِ رئاسةِ الحكومةِ بمنطقة القصبةِ ومؤسساتٍ حكوميَّةِ حيويَّةٍ أخرى، ومنعت هذهِ الوحداتُ البرلمانَ من الانعقادِ، ثُمَّ بعدها بيومٍ قامت قواتُ الأمنِ  باقتحامِ مكتبِ الجزيرةِ وإغلاقِهِ.

 حصلَ الانقلابُ في وقت مناسب جدا انطلاقاً من الظروفِ والأزماتِ التي كانت تعصفُ بتونسَ، فقد كانَ البرلمانُ شِبهَ معطلٍ تقريباً بسببِ إصرارِ رموزِ النظامِ القديمِ على افتعَّالِ المشاكلِ، وكانت الأزمةُ الاقتصاديَّةُ وأزمةُ كورنا تُؤذِنُ بكارثةٍ قريبةٍ، كما كانت السلطةُ تشهدُ صراعاً كبيراً بين الأحزابِ، وقد تسببَ كلُّ هذا في تآكلِ شرعيَّةِ رموزِ الثورةِ ونفورِ الشعبِ من السياسيين والعمليَّةِ السياسيَّةِ. وكذلك كان لدور نقابة العمالِ أثرٌ بارزٌ في حشد العمال ضد حكومة النهضة ونفذت أكثر من إضرابٍ وساهمت وأيدت قيس سعيد فكان لها معول آخر من معاول هدم هذه الثورة.

أما العواملُ الخارجيَّةُ، فتُشيرُ المصادرُ أنَّ الإماراتٍ وفرنسا ومصرَ والسعوديةِ كانت وراءَ القراراتِ التي أعلنَ عنها “قيس سعيد” ، فحسبَ تصريحِ “راشد الغنوشي” أن وسائلَ إعلامٍ إماراتيةٍ كانت تقفُ خلفَ الانقلابِ، كما ذكرَ موقعُ “Mondafrique” الفرنسيُّ أن ما يُقلِقُ الإماراتِ هو أن الحدودَ التونسيَّةَ الليبيَّةَ تخضعُ لسيطرةِ حكومةِ الوحدةِ الوطنيَّةِ، بمساعدةِ خبراءَ أتراكٍ، كما أن عدداً كبيراً من التونسيين الجنوبيين يتعاطفون مع القواتِ الليبية، وهذا الموقفُ الإماراتيُّ من الحكومةِ الليبية تتوافقُ معه كلُّ من السعوديةِ ومصرَ وفرنسا.

وذكرَ موقع “ميدل إيست أي” أنَّ رئيسَ الوزراءِ “هشام المشيشي” كانَ تحتَ الإقامةِ الجبريَّةِ بعدَ الانقلابِ، وأنه تعرضَ للضربِ المبرحِ من قبلِ أفرادِ أمنٍ تونسيين ومصريين لإجبارِهِ على تقديمِ استقالتِهِ، وأعلنت مصرُ بعد ذلك تأييدها لقراراتِ “قيس سعيد”، وأيضاً أعلنت فرنسا تأييدها بعدَ ذلكَ.

لذا من المتوقعِ أن تقومَ الدولُ المؤيدةُ للانقلابِ في قادمِ الأيامِ بتقديمِ مساعداتٍ كبيرةٍ بشكلٍ ملحوظٍ في مجالِ الرعايةِ الطبيةِ لمواجهةِ جائحةِ فيروسِ كورونا، بحيثُ يشعرُ المواطنُ أن حكومةَ الانقلابِ نجحت في مواجهةِ الأزمةِ، وقد أرسلت مصرُ قبلَ الانقلابِ بأسبوعين شحنةً من المساعداتِ الطبيةِ لتونسَ، وقامت فرنسا والإمارات بإرسالِ شحناتٍ طبيةٍ إضافيةٍ بعدَ الانقلابِ.

كما من المتوقع أيضاً أن تقومَ الدولُ الخليجيَّةُ -الإمارات والسعودية- بتقديمِ ودائعَ من العملةِ الصعبةِ بالبنكِ المركزيِّ التونسيِّ، وذلكَ من أجلِ الحفاظِ على سعرِ صرفِ العملةِ المحليَّةِ، أو تمويلِ وارداتٍ سلعيَّةٍ، وهو أمرٌ تحتاجُ إليه تُونُسُ بشكلٍ كبيرٍ لإحداث انفراجةٍ في الوضعِ المالي المتدهورِ منذُ فترةٍ، حيثُ بلغت الديونُ الخارجيَّةُ لتونسَ في إبريل/نيسان 2021 نحو ثلاثين مليار دولار، وحسب مشروع موازنة 2021، تعاني تُونُسُ من فجوةٍ تمويلية بنحوِ ستةِ مليارات دولار. وهذه السياسةُ طبقتها دولُ الخليجِ مع الانقلاب في مصر، وكذلك تمت ممارسةُ نفسِ الإجراءِ في السودانِ وتمَّ تقديمُ نحو ثلاثةِ مليارات دولار على دفعاتٍ مختلفةٍ للبنك المركزيِّ السودانيِّ.

كما يُرَجَحُ أن تندرجَ الاستثماراتُ، التي قد تقودها كلٌّ من الإمارات والسعودية في تُونُسَ بعد استبابِ الأمورِ الأمنيَّةِ بتونسَ من خلالِ المرحلةِ المقبلةِ، في المشروعاتِ السياحيَّةِ، والصناعاتِ الاستخراجيَّةِ، أو أعمالِ بناءٍ أو إصلاحِ طرقٍ، ولكنها لن توجَهَ على الأرجح أيُّ استثماراتٍ لمجالِ الصناعةِ التحويليَّةِ أو الزراعةِ، حتى تستمرَ تُونُسُ في حالةٍ من التبعيَّةِ للخارجِ، ويظلُّ مجتمعُها يعاني من الفقرِ والبطالةِ.

كما يلاحظُ أن الإماراتِ بعدَ التطبيعِ مع إسرائيل، تحاولُ أن تقودَ بقيَّةَ الدولِ العربيَّةِ نحو هذا المسارِ، وما السودانُ عنا ببعيدٍ، إذ كانَ من شروطِ تقديمِ الدعمِ للسودانِ هو قبولُ التطبيعِ معَ إسرائيلَ، وربما تحاولُ الإماراتُ في قادمِ الأيامِ أن تُجبِرَ تُونُسَ للسيرِ بنفسِ الطريقِ.

أما بالنسبةِ للأحزابِ السياسيَّةِ فقد تراوحت ردودُ الفعلِ بينَ رافضٍ ومؤيدٍ لقراراتِ رئيسِ الجمهوريَّةِ، فوصفَ حزبُ النهضةِ وحزبُ العمالِ القرارَ بالانقلابِ، واعتبرهُ الحزبُ الجمهوريُّ والتيارُ الديمقراطيُّ خرقاً للدستورِ، بينما أيدتهُ حركةُ الشعبِ واعتبرتهُ تصحيحاً لمسارِ الثورةِ والعملِ السياسيِّ.

أما بالنسبةِ لحركةِ النهضةِ وهي الكتلةُ الأكبرُ في البرلمانِ، فمن الواضحِ أنها ستقبلُ ضمنياً قراراتِ “قيس سعيد” مقابلَ أملِ استعادةِ الحياةِ السياسيَّةِ خلالَ فترةٍ وجيزةٍ، ومن الملاحظِ أن حركةَ النهضةِ بوجهٍ عامٍ تتجنبُ حشدَ أعضائها وأنصارها على الأرضِ إلا في بعض المواقفِ الفارقةِ تجنباً لمواجهةِ الأحزابِ اليساريَّةِ والعلمانيَّةِ، كما حدثت انشقاقاتٌ في حزبِ النهضةِ والتي أدت برئيسِ الحركةِ إلى حلِّ المكتبِ التنفيذي في هذهِ الفترةِ المهمةِ، مما أضعفَ الحزبَ في هذهِ المرحلةِ الحرجةِ.

أما ائتلافُ الكرامةِ وهو ائتلافٌ يتوجهُ بشكلٍ عامٍ ضِدَّ فرنسا، وكذلكَ ضِدَّ رجالِ الأعمالِ الفاسدين بشكلٍ كبيرٍ، وهو يقفُ مع النهضةِ بوجهٍ عامٍ في التحركاتِ ضِدَّ “قيس سعيد” والكتلةِ الديموقراطيَّةِ والحزبِ الدستوريِّ؛ فإنَّ مصيرَهُ مرتبطٌ بشكلٍ كبيرٍ بحزبِ النهضةِ، لكن من الممكنِ مع تصعيدهِ ضِدَّ “قيس سعيد”، أن يكونَ مصيرُ بعضُ أعضائِهِ إلى السجونِ، أما كتلةُ قلبِ تُونُسَ والتي يتزعمها “نبيل القروي” الذي خسرَ أمامَ “قيس سعيد” في انتخاباتِ الرئاسةِ، مع بقايا من شتات حزبِ نداءِ تُونُسَ حزبِ الرئيسِ السابقِ “الباجي السبسي”، فهي في البدايةِ رفضت الانقلابَ، ثُمَّ انقلبت على موقفِها وأعلنت تأييدها لقراراتِ “سعيد”، فيما يبدو لتتماشى معه، حتى لا تخرجَ تماماً من المشهد السياسي التونسي.

وختاماً: نلاحظُ أن الأحزابَ السياسيَّةَ بتونسَ، تسيرُ في اتجاهِ عدمِ التصعيدِ، خوفاً من تكرارِ المشهدِ المصريِّ، ومن حدوثِ اشتباكاتٍ مع الجيشِ والقواتِ الأمنيَّةِ، ومعَ ذلك فإن “سعيد” لم يكتفِ بهذهِ القراراتِ، بل منعَ أغلبَ أعضاءِ وقياداتِ الأحزابِ من السفرِ للخارجِ، وبدأَ باعتقالِ “ياسين العياري” الذي انتقدَ الجيشَ، في إشارةٍ واضحةٍ لما ستؤولُ إليه باقي الأيامِ، ويبدو أننا سنرى تكرارَ التجربةِ المصريَّةِ، ولكن بوسيلةٍ ألطفَ، إلا أنْ يشاءَ اللهُ أمراً آخرَ.

المقالة السابقة
مقل رأي – المقاومة بلا جدوى : إنَّ الحربَ على الإرهابِ ساهمت في تمكينِ سلطةِ الدولةِ
المقالة التالية
تقرير: الإماراتُ والثَّورَةُ السُّورِيَّةُ

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Fill out this field
Fill out this field
الرجاء إدخال عنوان بريد إلكتروني صالح.
You need to agree with the terms to proceed