- الكاتب: توماس هيغهامر – أيلول \ تشرين الأول 2021
أسألُ الطلابَ في بعض الأحيان وذلك في صفٍ أدرِسه بخصوص تاريخ “الإرهاب”.
ماذا كَانَ اسم الفرع التابع لتنظيم الدولة الإسلامية في أوروبا؟
إنه نوعٌ من الأسئلةِ المخادعةِ، فتنظيم الدولة الإسلامية والمعروفة أيضًا باسم «داعش» لَمْ يقم أبدًا بإنشاءِ فرعٍ أوروبي متكامل، حَيْثُ كَانَ الخليفةُ المُعلنُ ذاتيًا من قبل الجماعة – أبو بكر البغدادي – يُعرف أنه من الأفضل ألَّا يحاول القيام بشيءٍ كهذا.
بحلول عام (2014) وحالما أضفى تنظيمُ «الدولة الإسلامية» الطابعَ الرسمي على انفصاله عن تنظيم «القاعدة» وأثبتَ نفسَهُ كلاعبٍ مهيمنٍ في الحركة السلفية الجهادية العالمية؛ أدركت أجهزةُ الأمن الغربية كيف لَهَا أن تجعل من أمر إنشاء قاعدة عمليات لِهَذِهِ الجماعة في أوروبا أو أمريكا الشمالية أمرًا مستحيلًا بالفعل.
وعلى غرار تنظيم «القاعدة» من قبل، لَمْ يكن تنظيم «الدولة الإسلامية» موجودًا في الغرب إلا على شكل خلايا منفصلة إضافةً إلى المتعاطفين مع هَذَا التنظيم، لقد فَهِمَ البغداديُّ وأتباعه أن التنظيم الإرهابي التقليدي – والَّذِي يتمتع ببيروقراطية عاملة وأماكن اجتماعات منتظمة وإنتاج حملات دعائية داخلية – لن تكونَ لديه فرصةٌ كبيرةً للبقاء والاستمرار في بلدٍ غربي معاصرٍ، تمامًا مثل كرة الثلج في الجحيمِ.
في الواقع لقد مرت عقودٌ منذُ أن كَانَ من الممكنِ إدارةُ منظمةٍ إرهابيةٍ كبرى، قادرة على شن حملة متواصلة من الهجمات واسعة النطاق في أوروبا أو أمريكا الشمالية، وحتى إن أشهرَ الحركات الانفصالية والميليشيات اليمينية المتطرفة الَّتِي نشأت في بلدان غربية وَالَّتِي قد يبدو خطابها مُهدِدًا بالخطر هي عملياتٌ صغيرةُ النطاقِ نسبيًا، فهي عملياتٌ تبقى متواجدةً كونها تقتلُ فقط عدداً قليلاً نسبيًا من الناس وتتدبرُ أمرها بِحَيْثُ لا تلفت كامل انتباهِ السلطات، وقد انهارت فعليًا آخر المنظمات الإرهابية ذات التأثير الكبير والمتمركزة في الغرب في التسعينيات تحت وطأة التدابير المضادة الخاصة بِكُلِّ دولة، ومثالها حركة الانفصاليون الباسكETA) ) التابعة لمنظمة “إيتا” الانفصالية في فرنسا وإسبانيا وكذلك القوات الجمهورية الموالية والشبه العسكرية في إيرلندا الشمالية.
في أعقاب هجمات الحادي عشر من أيلول/سبتمبر، بدا أن كُلَّ شيءٍ سيتغير، وبالطبع فقد شهدَ العقدان الماضيان بعضَ الهجمات المروعة على أهداف غربية سهلة:
- كتفجيرِ محطةِ قطار في مدريد في عام 2004.
- والهجوم على مكانٍ للحفلات الموسيقية في باريس في عام 2015.
- والاعتداء على ملهىً ليلي في أورلاندو فلوريدا في عام 2016.
وَذَلِكَ بعضٌ من هجمات أخرى كانت أيضًا مروعةً، لكنَّ مثل هَذِهِ الجرائم لَمْ تكن من عمل منظماتٍ محليةٍ، ولم يتمكن أي من الجناة من توجيه مثل هَذِهِ الضربات لأكثر من مرةٍ واحدةٍ، وعلى الرغم من أن هَذِهِ الأفواجَ من المهاجمين ذوي التواصل الضعيف كانت قد تفوقت بشكلٍ دوري على أجهزة الأمن والاستخبارات الغربية لبعض الوقت، إلا أن الأجهزة الأمنية بدورها قد تكيفت وانتصرت بصورةٍ قطعيةٍ تمامًا.
وهذا ما جاءَ في تحليلٍ متعمقٍ يُقَدَمُ أسبوعيًا:
إنه على الرغم من أن هجمات الحادي عشر من أيلول/سبتمبر كانت مذهلةً، إلا أنها لَمْ تشرْ – كما يخشى الكثيرون – إلى أن منظمات إرهابية كبيرة وقوية كانت قد أرست جذورها في الغرب وهددت أُسُسُ نظامه الاجتماعي، وفي الوقت نفسه أدى الخوفُ المستمرُ من تِلْكَ العاقبة – وَالَّتِي لَمْ تكن مرجحةً على الإطلاق – إلى تغاضي الكثيرين عن أي اتجاه معارضٍ، ومع القوة القمعية المتنامية باستمرار للدولة (التكنوقراطية) إلى جانب ترسيخ الذكاء الاصطناعي لِهَذِهِ الميزة أصلاً، فإن خطرَ اندلاع تمردٍ مسلحٍ كبيرٍ – في البلدان المتقدمة على الأقل – أصبحَ أمرًا غير موجودٍ واقعيًا.
مستوى التهديد خطير.
في مطلع هَذَا القرنِ كانت التوقعاتُ مختلفةً تمامًا، وكان يُعتَقَدُ على نطاقٍ واسعٍ بأن هجمات الحادي عشر من أيلول كانت تُنذِرُ بصعود جهات فاعلةٍ غيرِ حكوميةٍ شديدةِ الفتكِ
– وكما كَانَ الكثيرون مقتنعين – لديها خلايا نائمة مجهزة تجهيزاً جيدًا في عشرات المدن الغربية، إضافةً إلى وجود مسلحين اندمجوا في مجتمعات لَمْ يلاحظها أحدٌ في انتظار أوامر بالهجوم.
وخلال الأسابيع والأشهر الَّتِي تلت مباشرةً أحداث الحادي عشر من أيلول، بدا أن الأدلة على وجود مثل هَذِهِ الخلايا متوفرة في كُلِّ مكانٍ، وفي أواخر أيلول/سبتمبر وأوائل تشرين الأول/أكتوبر من عام (2001) تَمَّ إرسالُ سلسلة من الرسائل المحتوية على سلاح الجمرة الخبيثة إلى مكاتب مجلس الشيوخ الأمريكي ووسائل الإعلام، وكذلك في الثاني والعشرين من كانون الأول/ديسمبر من عام (2001) تَمَّ إخضاع أحد البريطانيين المعتنقين للإسلام من قبل مسافر مرافق لَهُ في رحلة إلى ميامي بعد أن حاول إشعال حذائه الَّذِي كَانَ محشوًا بالمتفجرات البلاستيكية، وتشير سلسلة مستمرة من التقارير الإعلامية إلى أن الجهاديين كانوا قد تمكنوا من الحصول على أسلحة الدمار الشامل.
وفي أواخر عام (2002) صُعِقَ واضعو السياسات نتيجةَ تقارير استخباراتيةٍ تحذرُ من أن تنظيمَ القاعدة يخططُ لاستخدام جهاز ذو فجوتين يسمى “المبتكر” (وهي كلمة مأخوذة من الكلمة العربية “الاختراع”) وَذَلِكَ لإطلاق غاز السيانيد في مترو أنفاق مدينة نيويورك.
لَمْ يعد أحد آمناً – إلى هَذَا ألمَحَ مذيعو الأخبار حينها – مشيرين إلى مقياس التهديد الأمريكي الرسمي الَّذِي كَانَ يومض بشكل دوري باللون الأحمر معبرًا عن تهديدٍ “شديدٍ”.
وقد انعكسَ القلقُ السائدُ على التفكير الأكاديمي والإستراتيجي على نحو غير ظاهر للعلن، ففي أعقاب الهجمات القاتلة بغاز السارين على مترو أنفاق طوكيو والَّتِي نفذتها الطائفة المتطرفة “أوم شينريكيو” في عام (1995)، بدأ علماء مثل والتر لاكور يتحدثون عن “الإرهاب الجديد”، كشكلٍ من أشكال العنف السياسي الَّذِي يتسمُ بالحماس الديني والتنظيم اللامركزي والرغبة في تفاقم عدد الخسائر البشرية، كما أن هجمات الحادي عشر من أيلول/سبتمبر قد ساعدت على تعميم مثل هَذِهِ الأفكار، فضلاً عن الفكرة القائلة بأن المجتمعات الغربية معرضةٌ بشكلٍ خاصٍ لِهَذَا التهديد الجديد.
والواقع أن الإسلامَ المتشددَ قد نضجَ بالفعل في تسعينيات القرن العشرين، و قد رفعت القاعدة مستوى التهديد إلى حدٍّ كبير من حَيْثُ إظهار مدى الضرر الَّذِي يمكن أن تلحقه الجهات الفاعلة غير الحكومية ببلد قوي، في ذَلِكَ الوقت و بما أن أجهزة الأمن القومي في معظم البلدان الغربية كانت أصغر مِمَّا هي عَلَيْهِ اليوم، ولأن تِلْكَ الأجهزة لَمْ تكن تفهم الكثير عن تِلْكَ الجهات الفاعلة الَّتِي كانت في مواجهتها، كَانَ من السهل كثيرًا فضحُ أسوأ السيناريوهات، ومع ذَلِكَ فإنه من الواضح أن أهوال الحادي عشر من أيلول قد أخافت الكثيرين إلى درجة التشاؤم المفرط في وقتٍ لاحقٍ.
بيدَ أن الخطأ التحليلي الأكبر على أي حالٍ لَمْ يكن المبالغة في تقدير العدو، بل هو التقليل من قدرة الدول الغنية والمتقدمة على التكيف مع التهديدات الجديدة وحشد الموارد ضدها، ففي أعقاب هجمات الحادي عشر من سبتمبر/ أيلول، غالبًا ما صوَّرَ المعلقون حكومات مثل هَذِهِ الدول على أنها عبارة عن بيروقراطيات تتصف بالخمول و يتفوق عَلَيْهَا المتمردون خفيفو الحركة عن طريق الخدعة، وعلى أي حال و مع مرور السنين ما ظهر عوضًا عن ذَلِكَ كَانَ تكنوقراطيات ديناميكية تنعَمُ بجيوبٍ عميقةٍ ومحققين ونشطاء مدربين تدريبًا عاليًا، فمقابل كُلِّ دولار واحد في خزائن داعش، هناك ما لا يقلُّ عن عشرة آلاف دولار في البنك المركزي الأمريكي، كما أن مقابل كُلِّ صانعِ قنابل ينتمي إلى تنظيم القاعدة يوجد هناك ألف مهندس مدرب في معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا.
إن معظم الدول الغربية كانت قد خرجت عن قوانينها الخاصة عندما واجهت تهديدات أمنية على أراضيها، كما أثبتت الحكومات الغربية أنها أقلُّ دقةً في الحفاظ على الحقوق المدنية مِمَّا توقعه الكثيرون في السنوات الأولى من الحرب على الإرهاب، فعندما واجهت معظم الدول الغربية تهديدات أمنية على أراضيها فإنها التفت أو خرقت قوانينها الخاصة وأهملت النهوض بِمُثُلِهَا الليبرالية العليا الَّتِي أعلنتها بنفسها.
إن أحد التحديات المعرفية الأكثرِ انتشارًا في التحليل الإستراتيجي هو النظر إلى سلوك الخصم على أنه محكومٌ بعوامل خارجية المنشأ، باعتباره ناتجٌ عن إستراتيجية ماكرة أو بِسَبَبِ موارد مادية، ولكن الإرهاب يعتبرُ لعبةً إستراتيجية بين الدول والجهات الفاعلة غير الحكومية، وما يستطيع المتمردون القيام بِهِ يعتمدُ إلى حدٍّ كبيرٍ على التدابير المضادة الَّتِي تتخذها الدولة بشأنهم، وباختصار لا يَهُمُّ فيما إذا كَانَ “الإرهابيون” الجددُ بمستوىً جيدٍ، إن كان مستوى الأشخاص الَّذِينَ يطاردونهم أفضل بكثير.
ولفهم السببِ يَجِبُ على المرءِ أن ينظرَ في أساسيات المنافسة، فبالنسبة لِهَذَا الشأن فإن الجماعات الإرهابية في الدول الغربية – أو في أي بلدٍ مسالمٍ ومستقرٍ نسبيًا – عادةً ما تكونُ الفصائلُ الصغيرةُ فِيهِ لا تسيطرُ على أي إقليمٍ، وبعدَ أن تضاءل حجم الجماعات الإرهابية أمام القوى المشتركةِ للدولة، إلا أنهم يتمتعون بميزة رئيسية واحدة وهي عدم الكشفِ عن هويتهم، ويمكنها أن تعمل ما دامت أجهزة إنفاذ القانون لا تعرفُ من هم أو أين يمكن أن توجد مقراتهم، وبالتالي فإن مكافحة الإرهاب تتعلقُ أساسًا بالمعلومات، فأجهزة الأمنِ تعملُ على تحديد هوية المشتبه بهم وتحديد مكانهم، في حين تحاول الأخيرةُ البقاءَ متخفيةً عن الأنظار.
إن حملة الإرهاب في سباق مع الزمن، يراهنُ فِيهِ الإرهابيون على أنهم قادرون على جذب مجندين جددٍ أو هزيمةِ الدولة بشكلٍ أسرعٍ من الوقت الَّذِي تستطيع فِيهِ أجهزة الشرطة تعقبهم.
وتزداد معرفة الدولة بالإرهابيين تدريجيًا من خلال التحقيق والتحليل الاستخباراتي والبحوث، وما لَمْ يتمكن الإرهابيون من اجتذاب مجندين جدد وبالسرعة الكافية لجعل هكذا معلومات وعلى نحو دائمٍ معلومات قد فات عَلَيْهَا الأوان، فإن الإرهابيين سيخسرون السباقَ، ولذلك فإن معظم الحملات الإرهابية تتبع منحنى النشاط الَّذِي يبدأ مرتفعًا ثُمَّ ينخفض تدريجياً، وكما أحياناً وعند وجود عثرةٍ في النهاية يقوم المسلحون بمحاولةٍ أخيرةٍ يائسةٍ لقلب الموازين.
كما تتشكلُ الحملاتُ الإرهابيةُ أيضًا من خلال تكنولوجيا الاتصالات، فتقنيات التشفير الجديدة – على سبيل المثال- يمكن أن تساعد الإرهابيين على التهرب من الكشف، ويمكن لمنصات التواصل الاجتماعي الجديدة أن تساعدهم على نشر حملاتهم الدعائية وتجنيد أعضاء جدد، لكن الجماعاتِ الإرهابيةَ عادةً ما يكون لديها فرصة سانحة قصيرة للاستمتاع بثمار كُلّ تكنولوجيا جديدة قبل أن تضعَ لَهَا الدولُ تدابيرَ مضادةٍ مثل فك التشفير أو الرقابة، ففي عام (2003) وعلى سبيل المثال استخدم عناصرُ القاعدة في المملكة العربية السعودية أجهزة الهواتف المحمولة بشكل كبير، ولكن الرقابة الحكومية في المملكة جعلت من نفس هَذِهِ الأجهزة عائقاً أمام هؤلاء العناصر في غضون عام.
الحربُ الأولى على الإرهابِ:
بشكل عام شنت الدول الغربية ما يسمى بالحرب على الإرهاب، فكان أحدها ضد تنظيم القاعدة في العقد الأول من هَذَا القرن والأخرى ضد داعش في عام (2010)، وفي كُلّ حالةٍ من تِلْكَ الحالات كَانَ قد نمى تنظيم جديد في منطقة نزاع دون أن يلاحظه أحدٌ أساسًا قبل أن يفاجئ المجتمع الدولي بهجوم عابر للحدود، إلا أنه كَانَ قد تعرض للضرب مرةً أخرى من خلال جهود فوضوية لمكافحة الإرهاب، وفي كُلٍّ من هَذِهِ الحالات استفادَ المسلحون في البداية من وجود عملاء ومتعاطفين غير معروفين لدى الحكومات الغربية، لكنهم فقدوا هَذِهِ الميزةَ عندما رسمت هَذِهِ الحكومات خرائط لشبكاتها، وبالمثل فقد أفادت الابتكارات التكنولوجية الإرهابيين في البداية ولكنها أصبحت نقاط ضعف بالنسبة لهم مع مرور الوقت.
بدأ تنظيم القاعدة كمجموعةٍ صغيرةٍ من قدامى المحاربين العرب ضمن حركة الجهاد الأفغانية في الثمانينيات وَالَّذِينَ قرروا في منتصف التسعينيات شن حرب غير متكافئة ضد الولايات المتحدة لإنهاء ما اعتبروه إمبريالية غربية في العالم الإسلامي، وقد ازدادت قوة الجماعة في أواخر التسعينات، ويرجع ذَلِكَ بشكل جزئي إلى دخولها الأراضي في أفغانستان، حَيْثُ دربت المقاتلين وخططت لشن هجمات بهدوء نسبي، وقد حضر مئات المتطوعين من العالم الإسلامي وأوروبا وأمريكا الشمالية هَذِهِ المعسكرات بين عامي (1996) و(2001)، ولم تولي الحكومات الغربية اهتمامًا كبيرًا لهم لأنها اعتبرت أنهم لا يشكلون تهديدًا كبيرًا للوطنين الأمريكي والأوروبي، وفي الحادي عشر من أيلول/ سبتمبر عام ألفين وواحد استفادت المجموعة من عنصر المفاجأة ومن عدم الكشف النسبي عن هوية عملائها.
واستمرت قوة زخم تنظيم «القاعدة» لنصف عقد آخر مع تدافع الدول الغربية لرسم خريطة لشبكات التنظيم، إن منشأة خليج غوانتنامو وَالَّتِي أنشئت في أوائل عام (2002) لاحتجاز شخصيات كبيرة من تنظيم «القاعدة» الَّتِي انتهى بِهَا المطاف باحتجاز شخصيات ذات مستوى أدنى في معظمها (وكذلك بعض الأشخاص الَّذِينَ لَمْ تكن لهم صلة بالجماعة على الإطلاق) فَهَذِهِ المنشأة تعتبر بمثابة نصب تذكاري لقضية المعلومات المبكرة تِلْكَ.
وفي عام (2002) أشار وزير الدفاع الأمريكي دونالد رامسفيلد إلى أن المحتجزين في غوانتنامو هم “أسوأ المعتقلين” وفي الحقيقة لَمْ يكن لدى الولايات المتحدة أدنى فكرة عن الدور الَّذِي لعبه هؤلاء المحتجزون -إن وجد أصلاً – في تنظيم «القاعدة»، لأن السلطات في واشنطن لَمْ تكن تعرف سوى القليل نسبيًا عن عمليات التنظيم أو عناصره.
في خليج غوانتنامو، كوبا، كانون الثاني / يناير عام ألفين وتسعة:
في خليج غوانتنامو، كوبا، يناير/كانون الثاني 2009…
برينان لينسلي/ رويترز
في نفس الوقت الَّذِي كانت فِيهِ القاعدة ذاتها تنمو وتتحول من مجرد تنظيم إلى حركة ذات فكر عقائدي كانت قد اجتذبت الآلاف من المتعاطفين الجدد معها من جميع أنحاء العالم، ويرجعُ ذَلِكَ إلى الترويج الَّذِي ولدته هجمات الحادي عشر من أيلول/سبتمبر، وتزايد الحملات الدعائية الجهادية على الإنترنت، كما يعزى ذَلِكَ أيضًا إلى الغضب الَّذِي ساد أوساط المسلمين والناجم عن الغزو الَّذِي قادته الولايات المتحدة للعراق في عام (2003)، لقد نفذت خلايا مدربة أو مستوحاة من تنظيم القاعدة هجمات متعددة في أوروبا بين عامي (2001) و(2006)، أشهرها هجمات مدريد عام (2004) وتفجيرات العبور في لندن في عام (2005)، وهناك أيضاً عشرات المؤامرات الَّتِي تَمَّ إحباطها، مثل المؤامرة الَّتِي خططَت فِيهَا أحد الخلايا المتواجدة في المملكة المتحدة لتفجير عدة طائرات تجاريةٍ عن طريق جلب مكونات قنابل على متنها في حاويات صغيرة وتجميع القنابل بعد الإقلاع (هَذِهِ المؤامرة هي السبب في عدم السماح للركاب لجلب زجاجات المياه من خلال أمن المطار في يومنا هَذَا).
لكن قدرات أجهزة الاستخبارات الغربية كانت تنمو أيضًا، كما ارتفع عدد المحللين العاملين في شأن الجهاديين في جميع أنحاء أوروبا الغربية وأمريكا الشمالية بشكلٍ كبيرٍ في أعقاب أحداث الحادي عشر من أيلول/سبتمبر، وقد صممت أجهزةُ أمن الدولة هَذِهِ أنظمةً جديدةً لجمع الإشارات الاستخباراتية وتبادلت المزيد من المعلومات مع بعضها البعض، فقد أصدرت بلدانٌ عديدةٌ قوانين خفضت من خلالها وبشكل فعلي من المستوى الموجب للتحقيق مع المشتبه بهم وملاحقتهم قضائيًا، وغالبًا ما كَانَ ذَلِكَ من خلال توسيع تعريف الفعل الإرهابي ليشمل تقديم الدعم اللوجستي للجماعات، كما بدأت الأقراص الصلبة تمتلئ بالبيانات، والطابعات تخرج الرسوم البيانية للشبكة كما درس المحققون النقاط الدقيقة الخاصة بالعقيدة الإسلامية.
أخيرًا انقلبت الموازين عام (2007) تقريبًا، ففي ذَلِكَ الحين كانت الشبكات الَّتِي أنشأها تنظيم «القاعدة» في أوروبا قبل الحادي عشر من أيلول/سبتمبر قد تَمَّ تجميعها بالكامل، وكانت السلطات قد وجدت سبلاً لاحتجاز عدد من رجال الدين المتطرفين المقيمين في البلدان الغربية، وقد انخفضَ عددُ المؤامرات الجهادية في أوروبا كما انخفض حجم الحملاتِ الدعائية لتنظيم القاعدة على الإنترنت، وأصبح الخوف من الاختراق والمراقبة واضحًا في منتديات النقاش الجهادية على الإنترنت، حَيْثُ كَانَ المستخدمون في السابق يشعرون بالأمان الكافي لمشاركة أرقام الهواتف، كما بدأت فروع القاعدة في الشرق الأوسط تفقد زخمها لا سيما في العراق والسعودية، وكانت الولايات المتحدة قد شهدت تصعيدًا لفترة وجيزة في الهجمات عامي(2009) و(2010) – والَّذِي يرتبط في جزءٍ منه بتأثير الداعية السلفي الجهادي الأمريكي اليمني أنور العولقي – لكن ذَلِكَ لَمْ يكن كافيًا لتغيير الصورة العامة، وبحلول عام (2011) أصبح الجو العام في دوائر مكافحة الإرهاب الغربية يدعو للتفاؤل المشوب بالحذر، وقد وعدت موجة الانتفاضات الشعبية في العالم العربي الَّتِي بدأت في أواخر عام (2010) – وَالَّتِي عرفت باسم الربيع العربي – بإنهاء الاستبداد الَّذِي اعتبرهُ الكثيرون السببَ الجذري في وجود الحركة الجهادية، وعندما قتلت قوات الأختام البحرية الأمريكية أسامة بن لادن في أبوت آباد، باكستان، في الثاني من أيار/مايو عام (2011)، كَانَ من الممكن أن تؤنسَنا فكرةُ أن الحرب على الإرهاب تقترب من نهايتها.
لقد كَانَ ذَلِكَ صحيحًا وزائفاً في آنٍ واحدٍ بمعنى من المعاني، وبالعودة إلى الماضي نجد أن عام (2011) كَانَ بمثابة علامة على انتهاء حرب تنظيم «القاعدة» على الغرب، وأن الجماعة تعيشُ كمجموعة من الميليشيات الإقليمية ذات الأجندات المحلية في أماكن مثل الصومال، لكنها لَمْ تنجح في شنِّ هجومٍ خطيرٍ على الغرب منذُ ما يقاربُ عقدًا من الزمن، وفي الوقت نفسه يمكنُ القولُ جدلاً بأن تنظيمًا آخر قد تولى زمام الأمور ولكن مع نجاحٍ أكبرٍ.
الجهادُ ووسائلُ التواصلِ الاجتماعي:
كَانَ تنظيم داعش وليد الغزو الَّذِي قادته الولايات المتحدة للعراق في عام (2003)، ومن جراء التمرد السني الواسع الَّذِي أعقب ذَلِكَ الغزو ظهرَ فرعٌ نشط للغاية من تنظيم «القاعدة»، وهو فرعٌ من شأنه أن يحمل اسم تنظيم «الدولة الإسلامية في العراق» في عام (2006)، وفي السنوات الَّتِي تلت ذَلِكَ كانت جهود مكافحة التمرد الأمريكية والعراقية قد أضعفت هَذِهِ الجماعة، وكان من المرجحِ أن تظلَّ كفرعٍ إقليمي متوسطِ الحجمِ لتنظيم «القاعدة» لولا أن حدثين غيرَ متوقعين كانا قد استجدا:
الحدثُ الأولُ: هو اندلاع الحرب الأهلية في سوريا عام (2011) والَّتِي وفرت لتنظيم الدولة الإسلامية في العراق ملاذاً آمناً للتوسع فِيهِ، حَيْثُ عملت الجماعة في البداية في سوريا تحت اسم مختلف، لكن الأمور سارت على ما يرام هناك لدرجة أنها بدأت في عام (2013) بالانفصال عن تنظيم «القاعدة» وتقديم نفسها على أنها جماعة عراقية سورية مستقلة تسمى تنظيم «الدولة الإسلامية في العراق وسوريا » أو داعش، وفي منتصف عام (2014) صعدت هَذِهِ الجماعةُ إلى الساحة العالمية من خلال الاستيلاء على الثلث الغربي من العراق وطرح نفسها على أنها خلافة يَجِبُ على جميع مسلمي العالم أن يتعهدوا بالولاء لَهَا، وفي الوقت ذاته استحوذت أهوال الحرب في سورية في السنوات السابقة على اهتمام المسلمين السنة في جميع أنحاء العالم ودفعت الآلاف من أكثر المتدينين والمغامرين من بينهم إلى الذهاب إلى سوريا كمتطوعين إلى جانب المتمردين، وقد برزت سوريا كمركز عالمي للإسلام المتشدد، واجتذب تنظيم «الدولة الإسلامية» – الَّذِي كَانَ أبرز الجماعات الَّتِي تتخذ من سوريا مقرًا لَهَا – حصةَ الأسدِ من المقاتلين الأجانب.
الحدثُ الثاني: فقد تمثلَ في ثورة وسائل التواصل الاجتماعي، حَيْثُ انتشرت منصات مثل تطبيقات الفيسبوك والتويتر واليوتيوب عام (2010) تقريبًا، وَالَّتِي غيرت المشهد الإعلامي عبر الإنترنت بطرقٍ ساهمت وبشكلٍ كبيرٍ في تمكين الجهات الفاعلة ذات الفكر العقائدي المتطرف، ومثالٌ على ذَلِكَ الحملات الدعائية الَّتِي أصبحت الآن أكثر انتشارًا، و قبل ذَلِكَ الوقت كَانَ الجهاديون محصورين في مواقع غامضة لا يزورها الناس إلا إذا كانوا بالفعل متطرفين إلى حدٍّ ما على الأقل، وعلى النقيض من ذَلِكَ كَانَ للمنصات الجديدة ملايين المستخدمين، ويمكن لخوارزميات هَذِهِ المنصات أن تدفع بأي فيديو جهادي إلى الجدول الزمني لشخص ما مع أنه لَمْ يكن ليبحث عن أي فيديو من هَذَا القبيل.
ومن المفارقات أن الجهاديين كانوا أيضًا أكثر أماناً على المنصات الجديدة من المواقع الإلكترونية القديمة، لأن وكالة الأمن القومي ليس بوسعها أن تخترق تطبيق الفيسبوك بسهولةٍ كتِلْكَ الطريقة الَّتِي يمكنها بِهَا أن تخترق موقعًا جهاديًا غامضًا يقع في ماليزيا على سبيل المثال، وعلاوة على ذَلِكَ توفر وسائل التواصل الاجتماعي تكاملاً أفضل مع الهواتف الذكية، مِمَّا يسمح للمسلحين بمشاهدة الحملات الدعائية والقيام بتحميلها من أي مكان، فاغتنم المتطرفون هَذِهِ الفرصةَ، وقد شهد النصف الأول من عام (2010) زيادة هائلة في الحملات الدعائية الجهادية، حَيْثُ أنتج تنظيم «الدولة الإسلامية» موادًا على نطاق واسع وبمستوى من التطور الَّذِي لَمْ يسبق لَهُ مثيل في تاريخ الجماعات المسلحة غير الحكومية.
وقد غيرت منصات التواصل الاجتماعي المشهد عبر الإنترنت بطرق ساهمت في تمكين الجهات الفاعلة ذات الفكر العقائدي المتشدد إلى حد كبير.
وأخيرًا، أتاحَ النظامُ البيئي الجديدُ على الإنترنت فرصًا غنيةً للاتصال السري، فانتشرت تطبيقات المراسلة المشفرة، وانتشرت الاتصالاتُ الجهاديةُ عبر مجموعةٍ واسعةٍ من المنصات، لقد كَانَ كابوسًا بالنسبة لاستخبارات الإشارات، حَيْثُ بدأ المسلحون باستخدام تطبيقات المراسلة على نطاقٍ واسعٍ للاتصال الثنائي والجماعي الصغير و دونَ عوائقَ على ما يبدو من مخاوف المراقبة الَّتِي كانت في الماضي، و كَانَ أحد العوامل المهمة وراء الزيادة السريعة في عدد المقاتلين الأجانب في سوريا عامي(2013) – (2014) هو قدرةُ المجندين الأوائل على إرسال رسائل إلى أصدقائهم في بلادهم وإقناعهم بأن يحذوا حذوهم.
لَمْ تفعل الدول الغربية الكثير لوقف هَذِهِ التطورات لسببٍ بسيطٍ وهو أن تنظيم «الدولة الإسلامية» لَمْ يشن هجمات خارج الشرق الأوسط بعد، كما أنه لَمْ يضع المدن الغربية نصب عينيه في عملياته إلا في خريف عام (2014) وذَلِكَ بعد تشكيل تحالف عسكري دولي لمحاربة داعش، وفي أيلول/سبتمبر من ذَلِكَ العام، دعت “داعش” أتباعها في جميع أنحاء العالم إلى قتل الغربيين بأي وسيلة، وبدأت في تدريب فرق الهجوم على عمليات بارزة في أوروبا، حَيْثُ أصبحَ تنظيمُ «الدولة الإسلامية» في أوج قوته، وقد تمتعَ تنظيم الدولة الإسلامية بميزة رئيسية – تمامًا مثل تنظيم «القاعدة» في عام (2001) – وهي امتلاكه لشبكات من الأعضاء والمتعاطفين معه غير معروفة جيدًا من قبل أجهزة الاستخبارات الغربية، وقد قدمت الجماعة نفسها كبديلٍ أكثر فتوة و حيوية من القاعدة وجذبت جيلا جديدًا من المتطرفين الأوروبيين، وقد انتشرت حملاتها الدعائية بسرعة كبيرة لدرجة أن أجهزة أمن الدولة لَمْ تتمكن من تتبع جميع الأشخاص الجدد المتعاطفين معها.
وقد تُرجِمَ ذَلِكَ إلى واحدة من أخطر موجات العنف الإرهابي في تاريخ أوروبا الحديث، في غضون ثلاث سنوات – تحديدًا من عام (2015) إلى عام (2017)- قتلَ الجهاديون في أوروبا ما يقارب من 350 شخصًا، أي أكثرَ من العدد الَّذِي قُتِلَ في الهجمات الجهادية في أوروبا خلال السنوات العشرين السابقة وأكثر من العدد الإجمالي للأشخاص الَّذِينَ قتلوا على يد المتطرفين اليمينيين في أوروبا بين عامي (1990) و(2020)، كما أبرز هجوم داعش أيضا أول خلية إرهابية أوروبية قادرة على الضرب بقوة ولمرتين على التوالي وهي الجماعة الَّتِي نفذت الهجمات في باريس في نوفمبر/تشرين الثاني عام (2015) كما نفذت كذلك هجماتها في بروكسل في أبريل/نيسان التالي، ويشيرُ نجاحها إلى مدى عودة جهاز الاستخبارات إلى ما كَانَ عَلَيْه ِفي السابق.
لكن العنف من قبل تنظيم الدولة قد أثارَ هجمات مضادة لَمْ يسبق لَهَا مثيل وبنفس الدرجة حَيْثُ أعلن الرئيس الفرنسي فرانسوا هولاند بعد هجوم باريس عام 2015:
“نحن في حالة حرب” وذَلِكَ قبل إعلان حالة الطوارئ الرسمية، وقد تكررت ذات المرحلة الَّتِي تلت مباشرةً أحداث الحادي عشر من أيلول/سبتمبر وأعاد التاريخُ نفسَهُ وذَلِكَ من خلال توسيع ميزانيات الاستخبارات والرقابة الأكثر حزمًا والقوانين الجديدة الَّتِي تخفض من مستوى تدخل الشرطة في القضايا المتعلقة بالحركات الجهادية، ولقد وجدت أوروبا نفسها تتخذُ تدابيرَ صارمةً للغاية لدرجة أنها كانت تعتبرُ مستحيلةً على الصعيد السياسي قبل بضع سنوات فقط مثل:
إغلاق المساجد وترحيل الدعاة وتجريد الناس من جنسيتهم، حَيْثُ أرسلت بعض الدول الأوروبية قوات خاصة إلى العراق لملاحقة المواطنين الَّذِينَ انضموا إلى داعش، وابتداء من عام (2016) بدأت الحكومات وكبرى شركات وسائل التواصل الاجتماعي أيضًا جهدًا غير مسبوق لإزالة الحملات الدعائية الخاصة بالجماعة من الإنترنت، ويجري الآن تنفيذ نظام الحجب – وَالَّذِي كَانَ يعتبرُ في السابق غيرُ مستساغ سياسيًا أو حَتَّى مستحيلٌ تقنيًا – بكامل قوة آلية الذكاء الاصطناعي في منطقة وادي السليكون.
لقد فازت الحكومة مرة أخرى، فبحلول عام (2018) انخفض عدد المؤامرات والهجمات الجهادية في أوروبا إلى النصف مقارنة بعام (2016) كما توقف تدفق المقاتلين الأجانب بالكامل، واللافت للنظر أكثر من ذَلِكَ هو أن كُلَّ هجوم ذو طابع جهادي في أوروبا منذ عام (2017) قد نفذه شخصٌ وحيدٌ، مِمَّا يشيرُ إلى أنه قد أصبح من الصعب جدًا التخطيط لهجماتٍ جماعيةٍ، وبالمثلِ لَمْ تتضمن أي من الضربات الإرهابية أي مواد متفجرة منذ عام (2017)، و بدلا من ذَلِكَ استخدم المهاجمون أسلحة أبسط مثل البنادق والسكاكين والمركبات، كانت هناك بعض المؤامرات المعقدة والطموحة لكن أجهزة الشرطة أحبطتها جميعًا، وَهَذَا لا يعني استبعاد التهديد الحالي وَالَّذِي لا يزال خطيراً، لكن هجومَ داعش قد تراجع بقوة أواسط عام (2010).
مظلَّةُ الرقابةِ الرقميةِ:
قد لا يكون واضحًا للمواطن العادي كيف أن أجهزة الاستخبارات الحديثة أصبحت قويةً ببساطة، تخيلْ أنك أردت ولأي سبب من الأسباب أن تشرعَ في تنفيذ حركة تمردٍ عنيفةٍ في بلد غربي، ليكن أنك تريد إطلاق منظمة، وليس مجرد تنفيذ هجومٍ لمرةٍ واحدةٍ، كيف يمكنك أن تفعل ذَلِكَ؟ فجميع عمليات البحث على الإنترنت ورسائل البريد الإلكتروني والمكالمات الهاتفية الخليوية هي من حَيْثُ المبدأ في متناول الدولة.
يمكنُكَ البدءُ في اتخاذ الاحتياطاتِ اللازمةِ الآن، ولكن سيبقى التاريخُ الرقمي الخاص بك وبالمتعاونين معك متاحًا لعملية التحليل والتوصيف، ففي اقتصاد تهيمن عَلَيْهِ المعاملاتُ المعتمدةُ على بطاقة الائتمان، ستكون قدرتك على إنجاز الأمور دون تركِ أثرٍ محدودةً، أي مغامرةٍ تقوم بِهَا في المدينة وسوف يتمُّ القبض عليك عن طريق كاميرات المراقبة، وربما تِلْكَ الكاميرات المسلحة ببرامج حاسوبية للتعرف على الوجه، وكيف ستعرفُ بمن تثق، في حين أن أي من مجنديك الجدد قد يكون مندسًا من جهاز الشرطة؟ ماذا ستفعلُ عندما يتمُّ القبض على بعض من أفضل الناس لديك – بما في ذَلِكَ أولئك الَّذِينَ يعرفون أسرارَ منظمتك-؟.
والسبب في أن تكنولوجيا المعلومات تُمَكِّنُ سلطةَ الدولة مع مرور الوقت، هو أن والتمرد بحدِّ ذاته معركة من أجل المعلومات، ويمكن للدول استغلال التكنولوجيا الجديدة على نطاقٍ لا تستطيع المجموعات الصغيرة استغلاله، وقد سمحَ الحاسوبُ للدول بتجميع المزيد من المعلومات عن مواطنيها، ومكنت شبكةُ الإنترنت من تبادل تِلْكَ المعلومات بشكلٍ أسرع عبر المؤسسات والبلدان، كما سمحت أدوات مثل محطة بطاقة الائتمان والهاتف الذكي للسلطات من التعمق أكثرَ فأكثرَ في حياة الناس.
أنا أحياناً أعملُ كشاهدٍ خبيرٍ في محاكمات الإرهاب ويتسنى لي رؤية ما جمعه جهازُ الشرطة عن المشتبه بهم، وما تعلمته هو أنه بمجرد أن أجهزة الرقابة في الدولة أرادت أن تستهدف شخصًا ما، فإن هَذَا الشخصَ لَمْ يعدْ يحتفظ حَتَّى بجزءٍ ضئيلٍ من الخصوصية الفعلية.
تطبيعُ الرقابةِ:
من اللافت للنظر أن الإرهاب ذو الفكر الجهادي قد تمكنَ من الاستمرار في مثل هَذِهِ الأماكن على مستويات متدنية نظرًا للمزايا الساحقة الَّتِي تتمتع بِهَا البلدان الغنية المتقدمة، وأحد هَذِهِ الأسبابِ هو أن قدرات الدول تتضاءل بعد حدودها، وأن الحركة الجهادية هي حركةٌ عابرةٌ للحدود الوطنية على نحو غير عادي، فعلى مدى عقودٍ تمكَّنَ الجهاديون في الغرب من السفر إلى مناطق الصراع في العالم الإسلامي للتدريب، وبالتالي يتمتعون بنوعٍ من العمق الاستراتيجي الَّذِي لا يتمتع بِهِ المتطرفون الآخرون في الغرب أمثال المتطرفين اليمينيين.
والسبب الآخر هو أن العقيدة الجهادية تعزز ثقافة التضحية بالنفس، فإن أي شخص يفكرُ في الإرهاب في الغرب يعرفُ أنه لن يكون حاضرًا ليتمتع بالثمار السياسية الافتراضية للجهود الَّتِي قام بِهَا، لأنه إما أن يموت أو يقبض عَلَيْهِ في هَذِهِ العملية، ومع ذَلِكَ – ومع الوعد بمكافآت في الآخرة – تمكنت الحركاتُ الجهاديةُ من إعداد مئات المتطوعين لمثل هَذِهِ الهجمات الفردية، مِمَّا يسمحُ لَهَا بأن تغمر العدو بحشودٍ كبيرةٍ من العملاء الَّذِينَ يمكن الاستغناء عنهم، وإن معدل إعداد هؤلاء المتطوعين هو أعلى بكثير بيْنَ الجهاديين مِمَّا هو عَلَيْهِ في حركات التمرد الأخرى لدرجة أن العقيدة يَجِبُ أن تكون جزءً من التبرير.
وأخيرًا، فإن العدد الكبير من الصراعات المسلحة في العالم الإسلامي قد غذى الشعور بالظلم وأتاح حيزاً تنفيذيًا للجماعات الجهادية كي تنمو فِيهِ، ولا يمكن المبالغة في تقدير دور الغزو الأمريكي للعراق والحرب الأهلية في سورية على وجه الخصوص.
ونظرًا لِكُلِّ هَذِهِ الأسباب، يُمكِنُ تصورُ ظهورُ موجةٍ ثالثةٍ من الإرهاب الإسلامي في الغرب، لكن على الرغم من ذَلِكَ فهذا أمر غير مرجح، فسيواجهُ الإرهابيون المحتملون في المستقبل بيئة عمل أصعب بكثير مِمَّا واجهه تنظيمَا «القاعدة» و«الدولة الإسلامية» في أوج حياتهما ، كما أن فرصة أجهزة أمن الدولة في صقل مهاراتها فيما يتعلق بالجهاديين ستجعلُ من الصعب على الحركات المتطرفة الأخرى – الَّتِي هي أقلُّ قدرة على الوصول إلى مناطق النزاع وَالَّتِي تكون لديها ثقافة التضحية بالنفس أقل – شن حملات كبيرة في المستقبل.
كما ستصبحُ البلدان المتقدمةُ رقميةً أكثرَ من أي وقت مضى، وسيصبح من الأصعب والأصعب إخفاء هوية المرء والخروج عن الشبكة، وسيكون متمردو المستقبل قد عاشوا حياتهم بأكملها على الإنترنت، تاركين آثارًا رقمية خلال مسيرتهم عبره، وستكونُ تِلْكَ المعلومات متاحة للدول، وقد توفر التكنولوجيات الجديدة التخفي الرقمي للجهات الفاعلة غير الحكومية لكن من المرجح أن يكون الأثرُ مؤقتا، وفي الوقت نفسه قد يؤدي صعود الذكاء الاصطناعي إلى تسريع مسيرة الدول نحو الهيمنة التكنولوجية، وحتى الآن لَمْ تتمكن الدول من استغلال جميع البيانات المتاحة لَهَا، فالتعلم الآلي قد يغير ذَلِكَ.
ومن المحتمل أيضًا أن تجعل هَذِهِ التطورات التكنولوجية العنف السياسي موزعًا في جميع أنحاء العالم بطريقةٍ أكثر توازناً، وسوف تتمكنُ الدولُ ذاتُ المواردِ الجيدة من إيجاد مخرج يؤدي بِهَا إلى بلوغ حالة النظام ضمن أراضيها، في حين أن الدولَ الأضعفَ لن تتمكن من ذَلِكَ، إن الأمور غير متوازنة بالفعل، حَيْثُ عانى العالم الإسلامي أكثرَ بكثيرٍ مِمَّا عانته الدول الغربية خلال الحرب على الإرهاب، وقد يؤدي انقسام الاستقرار في المستقبل إلى اختراق النصف الجنوبي من الكرة الأرضية، حَيْثُ تُسَخِّرُ الأنظمةُ الاستبداديةُ ذاتَ المواردِ الجيدة قوةَ تكنولوجيا الرقابة لصالحها.
إن صعود الدول بمنأًىً عن التمردِ ليس بالأمر الجيد، ومن السذاجة الاعتقاد بأن السلطات الجديدة الخاصة بالدول لن تستخدم إلا ضدَّ الأشخاص الَّذِينَ يخططون لهجمات بالقنابل، فيمكن لِهَذِهِ السلطات – ومن المؤكد أنها تفعل – أن تنتقل تدريجيًا إلى مراقبة أشكال النشاط السياسي الأقل فتكا، ويتمُّ نشرُ نفس الأدوات في الأنظمة الاستبدادية وبطريقةٍ غير مقيدةٍ لإسكات معارضي النظام السلميين، فهي تسمحُ لدول مثل الصين والمملكة العربية السعودية بتحديد النشطاء والقضاء على عمليات الحشد في مهدها بطريقةٍ لَمْ تكنْ ممكنةً قبل عقدين من الزمن.
إن دول أوروبا وأمريكا الشمالية الغنية هي أنظمةٌ ديمقراطيةٌ تحرريةٌ، ولكن حكوماتها أيضًا تشكل وبضراوةٍ آلاتِ قمعٍ فعَّالةٍ، وإن أدوات الرقابة الَّتِي هي رهنُ تصرفهم لَمْ تكنْ قطُ أكثرَ قوةً من أي وقت مضى، لذا يتعينُ على هَذِهِ البلدان أن تختارَ قادتها بحكمةٍ.