الأزمة البنيوية في الثورة السورية

1 تعليق واحد
  • آراء وتحليلات
  • الكاتب: محمد خالد
  • الخطابي لدراسة الحروب الثورية | آب – أغسطس 2024

تتفاقم الأزمة التي نعيشها يوماً بعد يوم في خضم الأحداث التي تشهدها المنطقة، مما يضعنا أمام مشهد معقد ومركب يحتاج إلى قراءة متأنية ومتعددة الأبعاد.
إن هذه الأزمة ليست مجرد سلسلة من الأحداث السياسية المتلاحقة، بل هي نتيجة لتراكمات بنيوية تتشابك مع التطورات السياسية الجارية، ويمكن تقسيم الأزمة إلى عدة أبعاد رئيسية تبدأ من: المفاهيمي، مروراً بالسوسيولوجي، وصولاً إلى الفني لتتكامل هذه الأبعاد في صياغة الواقع الراهن بتعقيداته، وإن النظر لها وتحليل كل منها بشكل منفرد عن الآخر يعين على تفكيك هذا التعقيد والغموض الذي تمتاز به البيئة الاستراتيجية عادةً

يعاني المجتمع السوري من أزمة هوية عميقة والتباس مفاهيم موروث مثل: مفهوم الدولة والحكومة، والحزب والتنظيم، والأمن، مما يخلق تحديات كبيرة للحكومات والمؤسسات وفعاليات المجتمع المدني. لم تكن هذه الالتباسات وليدة اللحظة، بل هي نتاج تراكمات ثقافية وسلوكية ترسخت خلال حقبة البعث، حيث تعرضت هذه المفاهيم إلى عمليات تغيير ممنهج على مدار أربعة عقود، فلم يعد مفهوم الحكومة والحزب سليماً في أذهان المجتمع، كما أن الأمن لم يعد يقتصر على حماية المجتمع والناس، ولقد أشار مالك بن نبي إلى أن تصفية الاستعمار من العقول تتطلب جهداً ثقافياً وحضارياً يمتد إلى ما بعد انسحاب الجيوش وتحرير الدستور؛ لذلك عملية إعادة بناء المفاهيم تتطلب جهداً واعياً لإعادة تعريف الهوية والثقافة السورية بما يحقق استقراراً اجتماعياً وثقافياً بعيداً عن إرث البعث وشوائبه المعقدة.

يعيش المجتمع السوري اليوم أزمة ثقة عميقة تتجاوز العلاقات بين الأفراد والمؤسسات إلى مختلف مكونات المجتمع، وهذه الأزمة تغذيها مشاعر الخوف التي يعيشها الأفراد والتهديدات الناجمة عن الحرب الطويلة، والتي بدورها تفضي إلى سلوكيات عنيفة. هذا العنف المفرط له تفسيرات نظرية وفلسفية قديمة، مثل نظرية: “توماس هوبز” التي تشير إلى أن انهيار النظام السياسي يؤدي إلى حالة من “حرب الكل ضد الكل”، فالعنف المفرط هو ظاهرة تتكرر في تاريخ الصراعات الداخلية والثورات، والاستقطاب الاجتماعي يؤدي دوراً محورياً في تعميق هذه الأزمة، حيث تتسبب الانقسامات الاجتماعية في خلق ما يسميه “كارل شميت” بـ”العداوة المطلقة”، وهذه الانقسامات تضعف الروابط الاجتماعية وتزيد من أزمة الثقة، كما أن هذه البيئة تزيد من قوة وتأثير الأشخاص ذوي النزعة العنيفة، بينما يتم تهميش الأساليب السلمية في حل القضايا الداخلية لصالح تلك العنيفة، وتتحول هذه السمات مع مرور الوقت إلى جزء لا يتجزأ من الشخصية الثورية والمجتمع الثوري، مما يجعل التوصل إلى تفاهمات داخلية بين القوى الثورية أمراً شديد الصعوبة.
وفي خضم هذا الواقع يضيع الأفراد في بحر من الانتماءات المتصارعة، ويصبحون غير قادرين على تحديد هويتهم أو دورهم في المجتمع، وهذا الضياع ليس جديداً على المجتمع السوري، بل هو امتداد لتاريخ طويل من الاستقطاب الاجتماعي والسياسي في سوريا، حيث تصادمت الانتماءات القومية -العربية- مع الولاءات الطائفية والإقليمية والعشائرية -الضيقة- طوال تاريخ سوريا المعاصر، مما يضيف عبئاً إضافياً على الحاضر، ويعقد من إمكانية الخروج من الأزمات الراهنة في المستقبل.

يمثل غياب عقد اجتماعي واضح أو وثيقة مجمع عليها تُعرِّف الثورة السورية وتُقدم رؤاها التغييرية أحد أبرز التحديات التي تواجه الثورة السورية، فالدستور أو العقد الاجتماعي هو الذي ينظم العلاقة بين أطراف المجتمع وأفراده ويحدد مسؤولياتهم وحقوقهم، وينظم العلاقة بين الناس والسلطة، وعندما يغيب هذا العقد أو يتم تجاهله تصبح الساحة مفتوحة أمام الصراعات الداخلية دون ضوابط تحد منها، حينها تظهر المقاومة العنيفة وغير المنضبطة للمشاريع الصاعدة، وتصل هذه المقاومة أحياناًi إلى حد إسقاط تلك المشاريع وتشويه سمعتها حتى وإن كان ذلك يضر الثورة نفسها وسكان المناطق المحررة، وهذه الظاهرة ملاحظة في الثورة السورية سواء على مستوى تنافس الأفراد بين بعضهم البعض أو على مستوى المشاريع والجماعات.

تواجه المشاريع الصاعدة في هذا السياق تحديات كبيرة تدفعها نحو اعتماد سياسات مركزية مفرطة لحماية نفسها من الهجمات المستمرة، لكن هذه المركزية المفرطة لاحقاً تؤدي إلى عرقلة التنمية المتوازنة، وزيادة الفجوة بين المركز والأطراف؛ ما يعمق الهوة بين هذه المشاريع والمجتمع، وفي ظل هذه الهوة وأزمة الثقة تغيب أهداف الثورة عن الأذهان، ويصبح النقاش حول مبادئها وأهدافها موضوعاً خلافياً، ومما لا شك فيه أن هذه الحالة من التشتت والضياع تفتح الباب أمام التدخلات الخارجية، وتزيد من تعقيد المشهد، أما معالجة هذا الوضع تتطلب إعادة بناء العقد الاجتماعي كخطوة أولى نحو تحقيق الاستقرار الداخلي والتصدي للتدخل الخارجي.
التدخلات الخارجية والصراع السياسي (المشكلات التابعة):
التدخلات الخارجية والصراعات السياسية التي تحتل مركز الاهتمام لدى كثير من النخب الثورية والمثقفين في الثورة السورية ليست سوى مشكلات تابعة لأزمات بنيوية أعمق وأكبر، وهذه الأزمات -السابق ذكرها- متجذرة وتهيئ الأرضية للتدخلات الخارجية والصراعات السياسية، وتغذيها باستمرار، مما يجعل من الصعب معالجة هذه التدخلات والصراعات بمعزل عن تلك الأزمات البنيوية.

على النخب الثورية توجيه جهودها نحو معالجة هذه الأزمات البنيوية وإعادة ترتيب الأولويات الثورية من خلال فهم ومعالجة هذه الأزمات العميقة، ويمكن وضع برامج فعالة تستهدف جذور المشكلات بدلاً من الاكتفاء بالتعامل مع الأعراض الظاهرة مثل التدخلات الخارجية والصراعات السياسية، وإن الانشغال بالأحداث اليومية والنتائج المباشرة لهذه التدخلات والصراعات دون الالتفات إلى الأسباب الجذرية لن يؤدي إلا لاستمرار الأزمات وتعقيدها وتغذيتها أكثر.

المقالة السابقة
إسرائيل وحزب الله “احتمالات الحرب وخيارات المواجهة”
المقالة التالية
معركة الفلوجة الثانية 2004

1 تعليق واحد. Leave new

  • أحمد عبد الكريم
    أغسطس 19, 2024 2:08 م

    الحل ببرامج عمل تتشارك فيه السلطة مع منظمات المجتمع المدني لبناء ثقافة اجتماعية وسياسية تتمحور حول ماهية الدولة والحكومة
    والمواطنة بمبادئ ثورية (نسف المبادئ السابقة التي تشكلت نتيجة التناقض بين افكار حزب البعث وسياسته الإدارية للدولة) ولا يسعني أن أكمل بالتعليق أكثر

    رد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Fill out this field
Fill out this field
الرجاء إدخال عنوان بريد إلكتروني صالح.
You need to agree with the terms to proceed