حوار قام به مركز الخطَابي للدراسات مع الكاتب والباحث السياسي الفلسطيني
“أحمد سمير قنيطة”
حول العمليات الفدائية الفلسطينية الأخيرة، نوعيتها وأسبابها ومآلاتها
أولاً: تمهيد
قنيطة: “بداية لا بدَّ من توضيح بعض المعلومات عن الواقع الجغرافي في فلسطين المحتلة، ويمكننا القول: إن الاحتلال الصهيوني يسيطر على أكثر من 78% من أرض فلسطين التاريخية، بينما يعيش الفلسطينيون على ما مساحته 22% من فلسطين وتتوزع هذه السيطرة على الشكل الآتي:
- قطاع غزة: تحكمه حركة حماس، ومساحته لا تتجاوز 365 كم مربع، وهو شريط على شكل مستطيل طوله 41 كيلو متر بعرض 5-15 كيلو متر، محاصر من جميع الجهات، ومنفذه الوحيد على العالم الخارجي البعيد عن سيطرة الاحتلال هو معبر رفح مع مصر.
- الضفة الغربية: تبلغ مساحتها 5800 كم مربع، وهي منفصلة جغرافياً عن قطاع غزة، ومقطعة بالمستوطنات الصهيونية، حيث يلتهم الاستيطان مناطق واسعة منها، كي يسهل على الاحتلال سرقة الأراضي الزراعية والسيطرة على مصادر المياه، وتعزيز السيطرة الأمنية للاحتلال ومكافحة أعمال المقاومة.
قنيطة: يمكن تصنيف المناطق التي تشكل تهديداً استراتيجياً للاحتلال الإسرائيلي، وفق المستويات التالية:
- المستوى الأول: الداخل الفلسطيني، (مناطق الاحتلال والسيطرة الإسرائيلية الكاملة) مثل (بئر السبع والنقب) جنوب فلسطين، ومناطق الشمال (الجليل والمثلث) وغرب فلسطين (عكا – يافا – حيفا)، وقد تم تصنيف هذه المناطق مؤخراً كتهديد وجودي وقنبلة موقوتة بوجه الاحتلال، نظراً للعامل الديمغرافي (1.6 مليون فلسطيني يعيشون في الداخل المحتل)، وهذا ما يعطي أفضلية للفلسطينيين في مناطقهم، خصوصاً بعد معركة سيف القدس وانخراطهم في مناصرة قضيتهم الفلسطينية بوجه الاحتلال الإسرائيلي.
- المستوى الثاني: الضفة الغربية، إذ يسهم التداخل الجغرافي الكبير بين المناطق الفلسطينية والمستوطنات الصهيونية في توفير أهداف سهلة للمقاومة الفلسطينية، لولا القبضة الأمنية الشديدة والملاحقة الحثيثة للمجاهدين والمقاومين من قبل الأجهزة الأمنية التابعة للسلطة بالتنسيق مع الاحتلال الصهيوني.
- المستوى الثالث: قطاع غزة، حيث يعتبر بؤرة توتر وساحة ازعاج وتأثير مباشر على الاحتلال الإسرائيلي، لكن وعلى الرغم من الإمكانات العسكرية التي تفوق إمكانات الضفة والداخل، إلا أن مناطق الداخل والضفة تعد ذات خطر استراتيجي أكبر على الاحتلال من قطاع غزة للأسباب سالفة الذكر.
المنطقة (أ) : هي مناطق السيطرة الفلسطينية إدارياً وأمنياً.
المنطقة (ب) : سيطرة مشتركة، إدارياً للفلسطينيين، وأمنياً للاحتلال الإسرائيلي.
المنطقة (ج): وهي مناطق خاضعة للسيطرة التامة للاحتلال الإسرائيلي إدارياً وأمنياً، وتضمّ أكثر من 60 في المائة من مساحة الضفّة الغربية، ويعيش فيها حوالي من 400 ألف مستوطن، في أكثر من 240 مستوطنة متناثرة.[1]
أهم العمليات الأخيرة؟
شهدت الأيام الأخيرة سلسلة من عمليات الطعن وإطلاق النار الذي أدى إلى مقتل مستوطنين وجنود إسرائيليين، سواء في الضفة الغربية المحتلة أو داخل أراضي 48.
- 11 أبريل: إصابة مستوطنين إسرائيليين حاولا الدخول على قبر يوسف.
- 10 أبريل: إصابة ضابط إسرائيلي في عملية طعن واستشهاد المنفذة.
- 7 أبريل: قُتِلَ إسرائيليان وأصيب 14 على الأقل بطلقٍ ناري في شارع تجاري وسط تل أبيب.
- 31 مارس: إصابة مستوطن بجروح خطيرة في عملية طعن داخل إحدى الحافلات في غوش عتصيون.
- 29 مارس: مقتل 5 إسرائيليين بعملية إطلاق ناري في بني براك شرق “تل أبيب”.
- 27 مارس: مقتل جنديين من حرس الحدود وإصابة 5 آخرين في عملية إطلاق نار بالخضيرة جنوب حيفا، نفذها فلسطينيان من داخل الخط الأخضر.
- 22 مارس: مقتل 4 إسرائيليين في عملية طعن ودهس في بئر السبع.
- 20 مارس: إصابة شرطيين إسرائيليين بجروح في عملية طعن وقعت في حي رأس العامود بالقدس.
- 19 مارس: إصابة مستوطن بجروح في عملية طعن بالقدس.
- 7 مارس: إصابة شرطيين إسرائيليين بجروح في عملية طعن بالقرب من باب الأسباط بالقدس.
- 6 مارس: إصابة شرطي إسرائيلي في عملية طعن قرب باب العامود بالقدس.
- 2/3 مارس: عمليتا طعن في بلدة حزما شمال القدس أدت إلى إصابة إسرائيليين بجروح.
أهمية العمليات الفدائية الأخيرة وخطورتها؟
قنيطة: “العمليات الفدائية هي عمليات شبه اعتيادية ومتوقعة خصوصاً في شهر رمضان المبارك، ويمكن ملاحظة ذلك من خلال شواهد عدة في تاريخ النضال الفلسطيني، بل حتى إنَّ كُتَّاباً ومحللين عسكريين من الاحتلال الإسرائيلي؛ كانوا يتوقعون تصاعد هذه العمليات، كما كان الاحتلال يستعد لمثل هذه العمليات قبل بداية شهر رمضان”.
ويضيف قنيطة: “أمَّا الأمر غير المتوقع بالنسبة لهذه العمليات فهو نوعيتها ومكانها، حيث كان الاحتلال يتوقع أن تكون هذه العمليات عمليات دهس وطعن وإطلاق نار في مناطق الضفة الغربية، حيث التداخل الكبير بين المناطق الفلسطينية والمستوطنات، ويمكن القول إن العمليات الأخيرة كانت مفاجئة للكيان الصهيوني على المستوى الأمني والسياسي، من حيث:
- أن العمليات جاءت في عمق مناطق الاحتلال في الداخل الفلسطيني.
- قدرة المنفذين على إدخال واستعمال الأسلحة النارية، حيث من الصعب جدا إدخال الأسلحة وتجاوز الحواجز الأمنية والعسكرية الإسرائيلية.[2]
- قدرتها على إيقاع خسائر كبيرة في صفوف الإسرائيليين.
- أن الكيان لم يشهد كمثل هذه المرحلة من سنوات طويلة، ويدل وقوع هكذا عدد من الصهاينة على جاهزية وكفاءة المنفذين”.
جرت العمليات الفدائية في مناطق عمق الكيان والاحتلال الإسرائيلي، وهي مناطق سياحية ومكتظة بالسكان مثل:
- عملية “ضياء حماشة” التي وقعت شرق تل أبيب، وقتل فيها 5 صهاينة.
- عملية شارع “ديزنكوف” في تل أبيب نفذها الشاب “رعد حازم” من مخيم جنين التي أسفرت عن مقتل 3 مستوطنين ووقوع عدة إصابات خطيرة.
- عملية “الخضيرة” نفذها شابان من أم الفحم في الداخل المحتل وقُتِلَ فيها 2 من الصهاينة.
- عملية “بئر السبع” جنوب فلسطين المحتلة وقتل فيها 4 صهاينة.
“كانت أعداد قتلى الكيان في العمليات الأخيرة كبيرة نوعاً ما، ووصلت إلى ما يقارب 15 قتيلاً، وهذا العدد يعتبر عدداً كبيراً بالنسبة للإسرائيليين الذين تفزعهم مثل هذه الأرقام وهذه العمليات، فلك أن تتخيل أن حرباً كاملة في غزة قد لا توقع عدداً بهذا الحجم من القتلى، بسبب دخول ملايين الإسرائيليين إلى الملاجئ المحصنة خلال فترة الحرب”.
تكمن الخطورة الحقيقية في مثل هذه العمليات في انتشارها سواء في مناطق الضفة الغربية المحتلة أو داخل أراضي 48، ويقول تقرير لصحيفة Haaretz” الإسرائيلية”[3]: إنَّ أبرز المخاوف الرئيسية المنتشرة داخل المؤسسة الأمنية الإسرائيلية هو انتقال الهجمات إلى الداخل وتنفيذها بواسطة مواطنين عرب في إسرائيل، مع هجمات على نفس الوتيرة من جانب فلسطيني الضفة الغربية، وهو ما تحقق في عملية “بني براك” في تل أبيب بالفعل. وتعيد هذه العمليات إلى الأذهان عمليات المقاومة الفلسطينية إبان الانتفاضة الثانية داخل مناطق الاحتلال الإسرائيلي وهذه ما تخشاه دولة الاحتلال. كما أن عدم تبني أيُّ فصيل فلسطيني للعمليات يعني: أن هذه العمليات يمكن أن تُصنَفَ تحت هجمات الذئاب المنفردة، مما يجعل الأمر أكثر تعقيداً وأكثر خطورة بالنسبة لإسرائيل.
أسباب تصاعد العمليات الفدائية؟
قنيطة: كما أسلفنا سابقاً، فقد كان زخم وحجم هذه العمليات أمراً مفاجئاً للكيان الإسرائيلي بمختلف مستوياته الأمنية والسياسية والإعلامية، ويمكن لنا تفسير هذا المستوى من الزخم لأسباب عدة منها:
- في شهر رمضان تنشط العمليات الفدائية والمقاومة الفلسطينية بشكل خاص بسبب تزامنها من الأعياد اليهودية التي تكثر فيها عمليات الاقتحام للمسجد الأقصى (أحداث الشيخ جراح ومعركة سيف القدس في شهر رمضان الفائت).
- انسداد الأفق السياسي لدى الفلسطينيين وفشل جميع الحلول السياسية التي تتحدث عنها السلطة في رام الله.
- فشل السلطة في تمرير مشاريع التسوية، وتنَّكُر الاحتلال الصهيوني عن كل الاتفاقيات الأمنية والسياسية والاقتصادية مع السلطة.
- فقدان الثقة في السلطة الفلسطينية، فأصبح الكثير يراها مجرد أداة في يد الكيان يديرها جهاز الموساد الإسرائيلي.
- رؤية الكثيرين لنموذج العمليات على أنه ذو جدوى كما أنه يؤلم العدو ويحقق إنجازات، كما تم تحرير قطاع غزة في عام 2005 م.
- التسارع في مشاريع الاستيطان والتهجير في الضفة الغربية والقدس ضمن سلسلة متواصلة من عملية التهويد للمقدسات الإسلامية في القدس، والحال الذي يعيشه الفلسطينيون في الضفة من سلب الممتلكات والأراضي وسرق خيراتها وحرقها.[4]
- استراتيجية قيادة المقاومة في غزة التي تعمل على تثوير الشعب الفلسطيني في الضفة والقدس والداخل المحتل، والوصول بها الى حالة من الانتفاضة الشعبية؛ كون الضفة المحتلة على وجه الخصوص هي الخاصرة الأضعف للكيان والأقرب للمناطق المحتلة في الداخل.
الجهات التي تقف خلف هذه العمليات؟
قنيطة: “يظهر أن العمليات الفدائية الأخيرة هي عمليات فردية وبدوافع ذاتية لمنفذيها، حيث يرتفع مستوى الاحتقان الفلسطيني من الواقع الحالي، وذلك لما يعيشه الفلسطينيون من الظلم والقهر على يد الكيان الصهيوني والسلطة، مما يدفع الشاب الفلسطيني للانخراط في علميات فدائية، إذ يعتبر الفلسطينيون أنَّ مجرد وصول المجاهد لعمق الاحتلال إنجازٌ كبير.[5] وفي الحقيقة كما أسلفنا في شرح أسباب زخم هذه العمليات _ حيث يوجد لها من الأسباب الكثير_، فغالب الظن أنها جهود شخصية، لكن ذلك لا يمنع أيضاً من أن بعض هذه العمليات قد تكون منظمة، ولكن الفصائل لا تعلن مسؤوليتها عنها، ربما حفاظاً على سلامة الخلايا التي تساعد المنفذين وتسهل عليهم الوصول إلى أماكن تنفيذ العمليات وتهريب الأسلحة. ولقد وقعت العديد من العمليات الاستشهادية والعسكرية خلال سنوات الصراع مع الاحتلال الإسرائيلي دون أن تعلن الفصائل الفلسطينية المسؤولية عنها إلا بعد سنوات، كما حدثت عملية في القدس عام 2008 ونتج عنها ثمانية قتلى من الصهاينة، وأعلنت كتائب القسام مسؤوليتها عنها في عام 2011 وغيرها من العمليات الأخرى، فتأخير الإعلان قد يكون لدواعٍ أمنية، وقد تكون الفصائل خلفها ولكن أقرب الاحتمالات تدل على أنها عمليات فردية”.
قنيطة: “أما بالنسبة لقضية تبنى تنظيم الدولة بعض العمليات الفدائية داخل فلسطين، فمن المستبعد وجود شبكات وخلايا تابعة للتنظيم داخل فلسطين عدا عن وجود المتعاطفين أو المتأثرين بدعاية التنظيم”.
مستقبل العمليات؟
قنيطة: “يمكن القول إن ارتفاع منحنى العمليات أو تراجعها متعلق بسلوك الاحتلال الذي يعزز عمليات التهويد والتهجير بشكل متسارع في الفترة الأخيرة خصوصاً في القدس، وذلك لتحقيق مخططاته وطموحاته في إعلان السيادة الكاملة على القدس والمسجد الأقصى إقامة الهيكل المزعوم، لذلك لا ترتبط هذه العمليات فقط بشهر رمضان، وانما من المتوقع تصاعدها ما تصاعدت الإجراءات الاحتلالية ضد الفلسطينيين.
ومما قد يشجع على استمرار وتصاعد العمليات عدد من الأمور منها:
- اقتناع الشعب بجدوى المقاومة وقدرتها على التأثير في صفوف الاحتلال.
- اهتزاز صورة الجيش الإسرائيلي خصوصاً بعد حرب غزة 2021.
- استمرار الكيان في عمليات التغيير الديمغرافي كأحداث الشيخ جراح، والتوسع في بناء المستوطنات.
- استمرار الاستفزاز الإسرائيلي، مع اقتراب ما يسمي بمسيرة الأعلام”.
احتمالية دخول غزة في الصراع الحالي؟
احتمالية دخول غزة والمقاومة الفلسطينية على خط المواجهة يبقى أمراً وارداً، لكن قد لا تسارع غزة في الدخول على خط المواجهة بعمل عسكري في الوقت الحالي لأسباب عدة، وأهمها بحسب “قنيطة”:
- أولاً: التصعيد في غزة يصرف الأنظار عن الضفة الغربية والداخل الفلسطيني ويجعل الأنظار تتجه نحو غزة ومراقبة القصف المتبادل، مما قد يضعف من مستوى وحجم المقاومة في الداخل الفلسطيني.
- ثانياً: إتاحة الفرصة لانتشار المقاومة في الضفة والداخل الفلسطيني وتبنيها من قبل الشعب الفلسطيني والداخل المحتل.
- ثالثاً: محاولة الاحتلال الإسرائيلي نقل الأنظار إلى غزة والضفة، بعيداً عن مناطق الداخل الفلسطيني واستمرار العمليات هناك.
- رابعاً: الأوضاع في غزة لا زالت تعاني من تدمير منازل المدنيين والبنى التحتية بشدة، جراء عملية القصف الإسرائيلي في المواجهة الأخيرة.
ومن وجهة نظر قنيطة، “فإن الواقع الحالي لقطاع غزة قد لا يشجع على الدخول في المواجهة الحالية، لكنه يبقى خياراً وارداً وموضوعاً على طاولة قيادة فصائل المقاومة، وذلك في حال تصاعدت أعمال التهويد والانتهاكات الصهيونية في المسجد الأقصى المبارك والضفة الغربية المحتلة، فلا خطوط حمراء لدى المقاومة حين يتعلق الأمر بمقدسات الأمة وكرامة الشعب الفلسطيني”.
[1] من الالتباس إلى الوضوح: ثلاث ركائز لإعادة إحياء الحركة الوطنية الفلسطينية (brookings.edu)
[2] الجدير بالذكر أن الدخول لمناطق الداخل الفلسطيني، يحتاج إلى عمليات معقدة كالدخول عبر فتحات وثغرات قليلة، بالإضافة لإخفاء الأسلحة واختيار مكان وهدف العملية الأنسب، مما جعل الاحتلال في حالة ذهول وصدمة كبيرة.
[3] “أسوأ مخاوف إسرائيل تتحقق”.. ماذا تعني عودة العمليات الفدائية الفلسطينية داخل عمق دولة الاحتلال؟ (arabicpost.net)
[4] كما حدث في حي باب الهوى وحي شيخ جراح وحي البستان من تدمير البيوت وتهجير الأهالي واسكان مغتصبين من الكيان مكانهم بحجة “البناء بدون تراخيص”، مع العلم أن الكيان يرفض اعطاء تراخيص بناء للفلسطينيين في تلك المناطق.
[5] يتخطى المنفذ القبضة الأمنية للسلطة وحواجز الكيان الصهيوني، كما يحاول البعض المرور من خلال بعض المنافذ في جدار الفصل بين الضفة والداخل وهو جدار اسمنتي تحدث عنه المحللين العسكريين الإسرائيليين، وقدم وزير حرب الاحتلال خطة لتعزيز وتحديث هذا الجدار بقيمة 350 مليون دولار ووافقت عليه الحكومة الصهيونية.