تحرير الأقصى نظرة استراتيجية

لا توجد تعليقات

تحدث نتنياهو في مذكراته أن أشد ما يرعبه أن يكون مصير اليهود في فلسطين مشابهاً لمصير الحملات الصليبية، فما هي القواسم المشتركة بين الاحتلال الصليبي واليهودي التي تهيئ لنفس المصير المشترك؟

غربة الديمغرافيا

عندما جاء الصليبيون بكتلتهم الديمغرافية الضئيلة وألقوا بجذورهم الصغيرة في الشام في بيئة إسلامية غالبة؛ لم تكن معضلتهم الأساس في الأنظمة الحاكمة لبلاد العرب، إذ لم تكن الأنظمة في ذلك الوقت أفضل حالاً من الدول العربية اليوم إذ تغوص في الترف وتفتقد الروح الجهادية وتشغلها الصراعات البينية، بل سارع أغلبها في كسب ود الصليبيين والاستعانة بهم ضد الإمارات الأخرى – أي أن التطبيع في ذلك الوقت كان حالة غالبة في البداية تماماً كما هو الحال اليوم.
إن المعضلة الحقيقية والعقبة الكؤود التي واجهها الصليبيون هي التفوق الديمغرافي الساحق للمسلمين، فالوجود الصليبي مقارنة بالشعوب المسلمة المحيطة به كان مثل النقطة السوداء في الثور الأبيض، ولم يكن إلا مسألة وقت لتستفيق الشعوب على ضوء المجازر الصليبية وتنفض عن عاتقها الأنظمة المترهلة لتظهر لنا فيما بعد الدولة الزنكية ثم الأيوبية التي طردت الصليبين.
إن عمر الأمم ليس كعمر الإنسان، لقد احتاجت الديمغرافيا الإسلامية في ذلك الوقت إلى أكثر من عقد كامل لتعيد إحياء ذاتها.
والحال نفسه الآن بالنسبة للصهاينة؛ فهم في أفضل أحوالهم 9 ملايين يحيط بهم ويطوِّقهم من الغرب أكثر من 200 مليون مسلم يقطنون في شمال إفريقيا ومصر، ومن الجنوب والشمال ما يقرب من 150 مليون مسلم يسكنون الشام والجزيرة العربية، ومن الشرق 200 مليون مسلم في تركيا والعراق وإيران هذا إن لم نتحدث عن مسلمي وسط آسيا.
ويكفي أن نعلم أن ديمغرافيا إسرائيل لم تستطع حتى التغلب على ديمغرافيا الشعب الفلسطيني الذي تحتل أرضه بعد كل هذه المجازر، فكيف تصمد أمام العالم الإسلامي بأسره وهي تقبع في قلبه النابض، ولعل نتنياهو كلما نظر لخريطة السكان في المنطقة يتخيل نفسه وسط محيط واسع لا يابسة فيه يوشك أن يهيج عليه في أي لحظة، وحقَّ له الفزع.
وكما حصل مع الصليبين تماماً يبدو أن الديمغرافيا الإسلامية بدأت تستفيق في عقودها الأخيرة، وأبرزت قوى سياسية مسلحة وشرسة تملؤها الروح الجهادية والقضية الدينية كما في غزة وسوريا فضلاً عن مناطق أخرى.

حبل السرِّ الغربي

اعتمد بقاء الإمارات الصليبية في فلسطين على الدعم الذي حصلت عليه من أوروبا، وعندما دخلت الدول الأوروبية في صراعات بينية أشغلتها عن مدِّ حبل السر إلى الإمارات الصليبية وكان ذلك عنوان سقوط الوجود الصليبي في المشرق.
وكذلك حال إسرائيل اليوم، فإن بقاءها يعتمد على دعم خارجي لا محدود من الغرب، ولن تستطيع إسرائيل الصمود يوماً واحداً دون دعم الولايات المتحدة وحمايتها، ولعل هذه الحقيقة تؤرق نتنياهو: ماذا سيحصل إن أصبح للولايات المتحدة أولويات أخرى؟ كيف إذا نشبت حرب واسعة في أوروبا؟ كيف إذا دخل الغرب في صراع مسلح مع الصين بسبب تايوان أو غيرها من نقاط الاشتعال؟
 إن مجرد حدوث ذلك يعني أن اليهود في فلسطين تُركوا لمصيرهم المحتوم.

النهضة الإسلامية

عندما دخل الصليبيون إلى الشام كان العالم الإسلامي مفككاً وممزقاً، وقد أرهقته الصراعات البينية، ونالت منه طوائف الرافضة والعبيدين، ولم تستطع الإمارات السلجوقية المنهكة والمفككة في الشام والأناضول أن تتصدى للمد الصليبي في الوقت الذي رحب فيه الرافضة بالصليبيين ومدوا لهم يد العون.
ثم بدأت مسيرة النهضة مع مودود أمير الموصل الذي كان أول من أحيا روح الجهاد ضد الصليبين، ثم عماد الدين زنكي الذي ضم حلب للموصل وأسقط إمارة الرها الصليبية، ثم نور الدين زنكي الذي ضم دمشق لأختيها وضم مصر إلى دولته المظفرة، ثم صلاح الدين الذي أسقط الإمارة الرافضية وفتح بيت المقدس، ونهاية بالمماليك الذين استأصلوا آخر وجود صليبي في فلسطين، وتزامن كل ذلك مع اضطراب في بلاد الغرب وصراعات بينية مثل الذي تعيشه الآن من صراع بين روسيا وأوروبا، والصين وأمريكا، وحرب أوكرانيا.
ولأن النهضة الأولى ما كانت لتحصل لولا سقوط الأنظمة المهترئة والمهادنة للصليبيين حول فلسطين وقيام الدولة الزنكية ثم الأيوبية المتمسكة بهويتها، فإن النهضة الثانية لن تحصل ما لم تسقط الأنظمة العربية الحالية في الأردن وسوريا والعراق ومصر وتقوم بدلاً عنها دولة قوية تعتز بدينها وتوحد الجبهتين المصرية والشامية في خندق واحد.
ولأن النهضة الأولى لم تكن على يد الرافضة، فإن هذه النهضة لا يمكن أن تكون على يد الرافضة أيضاً، ولأن النهضة الأولى ما قامت لولا إسقاط الوصاية الرافضية في مصر، فإن هذه النهضة لا يمكن أن تبلغ أشدها في المنظور البعيد دون إسقاط الوصاية الرافضية في الشام وسوريا والعراق.

وخلاصة القول: إننا إذا اعترفنا بحاجة المقاومة لإيران حالياً، فإن الرهان عليها في المدى الاستراتيجي رهان خاسر، فصراعها مع إسرائيل ليس على الوجود وإنما على النفوذ، وأهدافها الكبرى ليست مختلفة عن أهداف الدولة العبيدية أيام الصليبيين (التوسع في بلاد السنة)، ولا يمكن -والحال كذلك- أن يكون فتح بيت المقدس على أيديهم، لكن الرهان الحقيقي على القوى الجهادية في غزة التي وظيفتها الصمود، والقوى الصاعدة في سوريا التي ينبغي أن تبلغ رشدها ويشتدَّ عودها لتخلُف الزنكيين والأيوبيين وتقوم بوظيفتها التاريخية.
وهذا ما يجعلنا نقول: إن صعود القوى السنية في سوريا اليوم خير للقضية الفلسطينية -ولو كان على حساب ضعف إيران وأذرعها- فالعلاقة مع الظهير السني في سوريا استراتيجية، ولا يمكن لعاقل أن يحزن لصعود هذا الظهير، وإن تزامن صعوده مع بعض الألم وفقدان بعض الحلفاء.
وإذا أردنا أن نتحدث عن الحال الأفضل للقضية الإسلامية؛ هو أن يدوم الصراع الإيراني الإسرائيلي مستنزفاً الأطرافَ جميعاً، ويهيئ الظرف لصعود القوى السنية التي كانت قبل سنوات تحت المجهر وأصبحت الآن على هامش الأولويات الدولية بفضل هذا الصراع.

المقالة السابقة
حرب 2006: كيف أسست لقواعد الاشتباك بين إسرائيل وحزب الله؟

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Fill out this field
Fill out this field
الرجاء إدخال عنوان بريد إلكتروني صالح.
You need to agree with the terms to proceed