لوك هارتيج – آذار 2021
أعلن الرئيس جو بايدن في أول خطاب له في السياسة الخارجية منذ توليه منصبه، بفخر قائلاً: “عادت الدبلوماسية مجدداً إلى قلب السياسة الخارجية”، ثم أعلن عن رؤيته لإعادة إحياء الدبلوماسية والتنمية وكيف يمكن أن يساعدنا هذا في التحديات السياسية المُعَقَّدَة بداية من الصين وصولاً إلى اليمن.
من الجلي أن الدبلوماسية تعمل كأفضل ما يكون في كبح الطموحات النووية الإيرانية أو التصدي للممارسات التجارية الصينية، لكن ما الذي سيكون عليه الوضع عند استخدام الدبلوماسية كأداة أساسية في مكافحة الإرهاب؟
في جلسة الاستماع، التي أجراها وزير الخارجية أنتوني بلينكن قدَّم نقطة انطلاق جيدة. كما كتبتُ في ذاك الوقت، قدّم بلنكن وجهة نظر براغماتية وجديدة في مجال مكافحة الإرهاب: لقد أدرك الطبيعة المستمرة للتهديد وذكر أنه لا يمكننا “إبعاد أعيننا عن الكرة”، لذا لن يُوقف العمل العسكري ضد التهديدات التي تواجهها الولايات المتحدة، لكنه وضع الدبلوماسية والتنمية في أماكنها المناسبة كأدوات ذات أولوية للقوة الوطنية بيد وزارة الخارجية للاستفادة منهما في جهود مكافحة الإرهاب. وناقش الحاجة لإعادة إحياء قوة عاملة متجددة في وزارة الخارجية الأمريكية، وضرورة معالجة القضايا الكامنة مثل هشاشة الدولة، وآليات عمل الدبلوماسية الذكية في بؤر الإرهاب الساخنة.
هذه كلُّها أفكار مُعتَبَرة، لكن العمل الجاد يبدأ الآن؛ بناء القدرات، وتأمين الموارد، وتجديد عمليات صنع القرار لتلبية رؤية بلنكين. ولا ينبغي أن يكون الغرض بالضرورة استبدال النهج العسكري والاستخباراتي تماماً، وإنما تأسيس أدوات دبلوماسية تعمل مع غيرها من الأدوات كجزء من الحملة الأمريكية، ولجعل جهود مكافحة الإرهاب أكثر شمولية واستدامة، ومع مرور الوقت أقل عنفاً. ولدى وزارة خارجية بايدن الفرصة لتقديم الخبرات المدنية التي تشتد الحاجة إليها للجم التطرف العنيف ومكافحته، وإدارة الآليات الجيوسياسية المُعَقَّدَة حول الإرهاب، وضمان أن تُكَمِّلَ العمليات العسكرية النهج الدبلوماسي، وفيما يلي أربعة أشياء كبيرة يمكن لوزارة الخارجية القيام بها لتحقيق هذه الرؤية:
- الاستثمار في قوة عمل ذات زخم كبير.
كانت سنوات ترامب مُدَمِّرة على الوزارة؛ أعداد كبيرة من الاستقالات، انخفاض طلبات الانتساب للسلك الدبلوماسي، انخفاض المعنويات، هذا هو كل ما تركه ريكس تيلرسون وبومبيو. وأكَّد بلينكن مراراً وتكراراً التزامه بتمكين المختصِّين المحترفين، وتعيينات بايدن الأولية التي شملت العديد من موظفي الخارجية ذوي الخبرة والذين رُقٌّوا أو أُعيدوا إلى الخدمة الحكومية، تشير إلى هذا الاتجاه.
لكن من منظور مكافحة الإرهاب، تحتاج الوزارة إلى مزيد من العمل، فالتأكد من أن الوزارة يمكنها الوصول إلى الخبرات داخل الحكومة وخارجها ضروري لمهام مكافحة الإرهاب، وكذلك وجود المال اللازم لوضع هؤلاء الخبراء في أماكنهم المناسبة. وهذا يعني، أولاً: إيلاء الأولوية لجهود تكوين فريق من الخبراء في فروع الشرطة والأمن، وبناء القدرات المؤسسية، وتعزيز دور القانون الذي يمكن استخدامه في بلدان تواجه التهديدات الإرهابية، كجزء من جهود الحكومة الأمريكية الأوسع لمعالجة هشاشة الدولة.
مراجعة بحث “المساعدة على تحقيق الاستقرار لعام 2018” مفيدة هنا. فهي ترى أنه رغم العواقب السياسية للعمل المدني، إلا أن الولايات المتحدة كثيراً ما فشلت في تفويض وبناء وتمويل الخبراء المطلوبين للنجاح في بيئات الصراع. السنوات الخمس عشرة الماضية من العمل على معالجة هشاشة الدولة والصراع أنتجت أفكاراً متنوعة عن كيفية بناء هذه القدرات. لكن العناصر الأساسية تبقى كما هي: الحفاظ على خبرات أساسية كبيرة ضمن الحكومة الأمريكية للعمل في بيئات الصراع، وتكوين مجموعة قوية من المتعاقدين والشركاء الفاعلية غير الحكوميين ممن يستطيعون زيادة قدرات الحكومة الفيدرالية، والسماح للفِرَق في كل دولة من طلب هذه الخبرة والاستفادة منها بالشكل المناسب. فما يحدث عند عزوف الولايات المتحدة عن الاستثمار في هذه القدرات واضح: الاعتماد على الجيش الأمريكي لأداء هذه المهام، أو عسكرة المهام التي يجب أن يقودها مدنيون، أو ببساطة عدم تنفيذ المهام.
لكن تأهيل الأفراد ليس بكافٍ؛ فحكومة الولايات المتحدة ينبغي أن تستفيد منهم بشكل أفضل حيث تحتاجهم. حيث أبدى رجال ونساء وزارة الخارجية والوكالة الأمريكية للتنمية الدولية (USAID) شجاعة مذهلة في السنوات التي تلت الحادي عشر من أيلول، وانتشروا بأعداد كبيرة في العراق وأفغانستان، والأماكن الخطرة الأخرى، وخسرنا بعضاً من أفضل هؤلاء الرجال والنساء في هذه العملية. وتعززوا بعدد كبير من الموظفين المؤقَّتين والمتعاقدين، الذين يعملون أيضاً في بيئة خطرة.
لكن إدارة وزارة الخارجية -وقيادة الحكومة الأمريكية الأوسع- سعوا جاهدين لإدارة المخاطر بشكل فعّال، والكثير من هذه المخاطر جاءت بسبب البيئة شديدة الاستقطاب التي وجدت وزارة الخارجية نفسها فيها في أعقاب هجوم بنغازي في ليبيا شهر أيلول من عام 2012. لا شك أن أحداث بنغازي كشفت عن أوجه قصور، خصوصاً طريقة مشاركة المختصين الأمنيين في وزارة الخارجية في المناقشات السياسية، لكنها حفَّزَت كذلك إجراء التغييرات المطلوبة أكثر من غيرها في طريقة تدريب الوزارة لأفرادها وتقييم المخاطر خارج الوطن. ومع هذا استغل الجمهوريون الهجمات ليشنّوا هجمات سياسية، وبدت الحكومة الأمريكية وكأنها في وضعيَّة الدفاع.
في الاجتماعات الأسبوعية كان مسؤولو الأمن في وزارة الخارجية ومخططو القوات في البنتاغون والموظفون في البيت الأبيض يدققون في كل عملية انتشار للأفراد تقريباً، مما يعني كمية هائلة من التدقيق يجعلهم في الغالب يؤخِّرون عمليات الانتشار المهمة لأسابيع أو لأشهر. وفي بعض الأماكن مثل اليمن، لم تتمكن الحكومة الأمريكية من وضع المدنيين الأمريكيين في أماكن تمكِّنهم من المشاركة الحقيقية في العمل. وغالباً ما وجد الخبراء المدنيون أنفسهم مختبئين في السفارة غير قادرين على زيارة نظرائهم في الدولة المُضيفة بانتظام أو القيام بالعمل الذي أُرسِلوا لأجله.
لا شك أن التخطيط الأمني الحصيف مهم للغاية، لكن عندما تصبح الحكومة مشلولة بسبب اعتبارات أمنية مبالغ فيها، لا يتمكن أفرادها من الوصول إلى حيث يجب أن يذهبوا لتنفيذ المهمات المهمة، وبما أن صناع القرار السياسي يختارون نشر قوات عمليات خاصة مسلحة جيداً ومحمية جيداً بدلاً من المدنيين الذين يحتاجهم شركاء الولايات المتحدة، فإن المساعدة الأمريكية لمكافحة الإرهاب سرعان ما تصبح عسكرية.
ولا يعني هذا الاستخفاف بقدرة المتخصصين في الأمن الدبلوماسي ذوي القدرات الكبيرة والذين يعانون من نقص في الأفراد، بل تحتاج حكومة الولايات المتحدة إلى إعادة تقييم، على مستوى كبار صانعي السياسات، لإطار عمل المخاطر الذي يوجِّه عمليات الانتشار في الخارج. وهذا يعني مزيداً من التوسُّع في الأعمال المُتَّخَذَة في أعقاب 2012 لتقييم السياسات القائمة على المخاطرة، والقدرة على تخفيف المخاطرة، وإمكانية الاستفادة من هذه السياسات في مكافحة الإرهاب، ومن ثم التفويض لمنح سلطات أكبر للموافقة على مثل هذا الانتشار دون المرور بنقاشات حادة بين الوكالات.
كما تحتاج وزارة الخارجية إلى تقوية التعاون الأمني الدبلوماسي مع الاستخبارات، والاستثمار في إمكانياتها عبر زيادة عدد الوكالات الخاصة. ويجب أن يتمتع الدبلوماسيون الأمريكيون والعاملون في التنمية بالقدرة على تنفيذ أعمالهم بالشكل الصحيح عندما يَصِلون إلى البلاد، لكن غالباً ما يُنظَر إلى العسكريين وحراس الأمن على أنهم الاستجابة إلى ما طلب من الولايات المتحدة، بما في ذلك القيادة المدنية العليا. وفي الحقيقة فقد عَمِلَ المسار الدبلوماسي الأمني منذ سنة 2012 على نحو ممتاز في ليبيا وسورية والعراق والصومال وأفغانستان دون حوادث كبيرة. ويعود السبب إلى أن هذه المواقع أُنفِق عليها جيداً، ويجب أن تكون نموذجاً يُحتذى للمواقع الأخرى ذات الأهمية بالنسبة للولايات المتحدة.
- الانخراط في الدبلوماسية الذكية وصوغ السياسات الشاملة بين الوكالات.
مجرد نظرة سريعة إلى بؤر الإرهاب خلال العقدين الماضيين تكشف أن التهديدات الإرهابية تنبثق في معظمها من بيئات معقَّدَة. وعادة ما تشمل الظروف الأساسية السلطات الحكومية الوطنية أو المحلية التي تسعى جاهدة لتوفير الخدمات الأساسية أو فرض السيطرة على أراضيها، فضلاً عن قضايا هشاشة الدول التي تمثِّل مشكلة أكبر، وتستغل الجماعات الإرهابية النزاعات القَبَلِيَّة أو العِرقيَّة أو الدينية القائمة. ولا تتطلب معالجة تهديدات إرهابية في أماكن مثل العراق أو سورية أو أفغانستان أو ليبيا أو اليمن أو الصومال تأسيس برامج فعّالة لمكافحة الإرهاب فحسب، بل الانخراط في أعمال دبلوماسية ذكية لتوجيه القوى السياسية في كل بلد بالإضافة إلى القوى الخارجية التي تحاول تكوين الآليات الداخلية للعمل. كما تتطلب معالجة التهديدات الإرهابية عمليةَ صنعِ سياسةٍ خارجيةٍ متكاملةٍ تسخِّر قدرات الحكومة الأمريكية برمَّتِها لمواجهة التهديد الإرهابي والقضايا الرئيسية.
رغم أنه كثيراً ما عومِلَت قضية مكافحة الإرهاب على أنها قضية مستقلة بحد ذاتها خلال العقدين المنصرمين، حيث وُضِعَت السياسات في مجموعة منفصلة من الاجتماعات، في ظل غياب المسؤولين الرئيسيين، وخصوصاً أصحاب الخبرة العميقة في القضايا الإقليمية والتنموية. وبالتأكيد هنالك أوقات تقتصر فيها عملية اتخاذ القرار فيما يخص قضايا حساسة لمكافحة الإرهاب على عدد محدود من صناع القرار السياسي، على سبيل المثال الغارة التي قتلت بن لادن.
لكن في معظم الحالات، يتطلب التعامل مع التهديد الإرهابي تفكيراً شاملاً حول المشكلات ذات الأولوية والأدوات المتاحة لتحييد التهديدات الوشيكة، وتحصين الشركاء من التهديدات المستقبلية، وتطوير برامج طويلة المدى لمعالجة دوافع التطرف العنيف. كما يتطلب الأمر وجود دبلوماسيين متمرسين يمكنهم توجيه العمل من داخل الدولة ومن خارجها.
قدَّم نهج إدارة أوباما في حملة القضاء على الدولة الإسلامية -على الأقل بعد أن اكتسح التنظيم شمال العراق بهجماته المباغتة- مثالاً جيداً عما يمكن أن يفعله التكامل بين صانعي السياسة والدبلوماسية الذكية. ترأّس مسؤولو مكافحة الإرهاب والسياسة الإقليمية في مجلس الأمن القومي المشترك اجتماعات صناعة السياسة وركّزوا على اجتذاب مجموعة من المصادر للاستفادة منها في الحملة وتوجيه القضايا الجيوسياسية الشائكة بما فيها إيران والأكراد وتركيا وسورية وروسيا. وسافر مبعوث رئاسي خاص حول العالم لبناء تحالف غير مسبوق بغية دعم الجهود المدنية والعسكرية، ونجحت الدبلوماسية رفيعة المستوى في المنطقة في تجاوز القلق الإيراني بشأن العمليات الأمريكية، والمخاوف التركية بشأن عمل الولايات المتحدة مع الأكراد، واحتمال الرد السوري على العمليات الأمريكية شمال شرق سورية.
لقد رأينا ما حدث عندما تُرِك هذا النهج الحصيف في عهد إدارة ترامب، حيث تصاعد التوتر مع إيران، وصادق ترامب على هجوم عسكري تركي مما شكَّل خيانة لحلفائنا الأكراد، واقتربت القوات الأمريكية من الاشتباك بالقوات الروسية، وبدأ النظام السوري بتوسيع جرائمه وصولاً إلى شرق سورية. وصحيح أن الجيش الأمريكي أحرز تقدماً على الدولة الإسلامية في السنوات الأربع الخالية، لكن دون الجمع الصحيح بين الخبرة المدنية والدهاء الدبلوماسي، مما يجعل هذه المكاسب غير مُستدامة.
- تبنّي الأجندة المضادة لهشاشة الدول واستخدام الموارد بذكاء
إن كان ثمة سبب رئيسي في جعل عملية مكافحة الإرهاب عسكرية في معظمها منذ عام 2001 فهو أن التفويض والتسليح كلاهما جاءا بطلب من السلطة التنفيذية ووافق عليهما الكونجرس. ونالت وزارة الدفاع الأمريكية العديد من التفويضات التي تسمح لها بتدريب وتجهيز الميليشيات الأجنبية التي تواجه التهديدات الإرهابية، والعسكريين الأمريكيين المنخرطين في أنشطة عمل يومي من التعاون الأمني لبناء قدرات الشركاء، رغم أن وزارة الخارجية تلقت مخصصات أقل وهذه المخصصات تتجه بشدة نحو دعم عملية إنفاذ القانون الأجنبي بدلاً من مجموعة شاملة من البرامج المؤسسية وبسط الاستقرار ومكافحة التطرف العنيف، مما يؤدي إلى تجاوز النهج الأمني والاتجاه إلى استراتيجية تقوم على سيادة القانون وكبح دوافع التطرف.
تموِّل الأداة الأساسية لوزارة الخارجية؛ وهي برنامج المساعدة على مكافحة الإرهاب الذي تبلغ قيمته 180 مليون دولار، التدريب المخصص لأجهزة فرض القانون الأجنبية. فقد طوِّرَت الوزارة برامج إقليمية لمكافحة الإرهاب وموَّلتها من مجموعة من الحسابات وخصوصاً في منطقة الساحل وشرق أفريقيا. لكن هذه البرامج تميل إلى توزيع مبالغ مالية صغيرة نسبياً في العديد من البلدان. على سبيل المثال تتلقى “شراكة مكافحة الإرهاب في الصحراء” حوالي 40 مليون دولاراً من التمويل السنوي من وزارة الخارجية، رغم أن هذا الدعم يتوزّع على 12 دولة يقارب مجموع مساحاتها مساحة الولايات المتحدة.
وبالنسبة لبرامج مكافحة الإرهاب الأخرى، وخصوصاً التمويل الذي لا علاقة له بفرض القانون، يجب على وزارة الخارجية تمحيص الحسابات المختلفة، التي تديرها مكاتب مختلفة لتجميع التمويل معاً. عام 2014 حاولت إدارة أوباما تكوين سلة كبيرة لموارد ومخصصات مكافحة الإرهاب من خلال الأموال التي يقدِّمها الشركاء في مكافحة الإرهاب لكن الكونجرس رفض طلب وزارة الخارجية تلك السنة، ولم يُعِدهُ إلا في السنة التالية وبمستوى أقل مما كان مطلوباً في البداية، وخفَّضت إدارة ترامب من البرنامج أكثر.
تأمين تمويل مدني قوي لمكافحة الإرهاب يشكِّل عبئاً ثقيلاً، لكن يوجد فرصة جديدة: هي التركيز المتزايد من الحزبين على موضوع هشاشة الدولة. ويطرح قانون هشاشة الدولة العالمي لعام 2019 رؤية واسعة لكيفية قيام وزارة الخارجية والوكالة الأمريكية للتنمية الدولية بتحسين استقرار الدول الهشة ومعالجة الأسباب الجذرية للعنف، بما في ذلك عنف المتطرفين، ويمنح القانون تفويضاً بمبلغ 1.15 مليار دولار على مدى خمس سنوات لدعم الوقاية من الإرهاب وتحقيق الاستقرار في الدول ذات الأولوية ومعالجة النزاعات الناشئة سريعاً. ولم تكن إدارة ترامب متحمِّسة لقانون هشاشة الدول العالمي وفشلت في تلبية بعض المستلزمات الرئيسية للقانون، أهمها مستلزمات لاختيار ما لا يقل عن خمس دول لها الأولوية.
يجب على إدارة بايدن العمل على تنفيذ القانون بشكل كامل، ويجب أن تأخذ بعين الاعتبار الزيادات في التمويل بعد أن بدأ تجديد النهج الأمريكي اتجاه الهشاشة يُثبت فعاليته. بالتأكيد سيكون هنالك دول مختلفة تستحق إدراجها ضمن الدول ذات الأولوية الأولى المحددة لأسباب مختلفة تتعلق بالسياسة الخارجية، لكن يجب على الأقل أن تواجه بعض الدول التهديدات الإرهابية المهمة. وغالباّ تمثِّل هذه الدول تحديات فريدة من نوعها على الأرض ومن حيث طريقة استجابة الولايات المتحدة، ومن المهم تطوير أفضل الخبرات للعمل في مثل هذه الأماكن.
كما يجب استخدام الموارد بشكل أثر فاعلية، وخصوصاً لمواجهة ومنع عنف المتطرفين. في السنوات الماضية، طوَّرَت الحكومة الأمريكية تفكيراً أكثر تعقيداً حول الروابط بين هشاشة الدولة وعنف المتطرفين، لكنها إلى الآن لا تملك ما يكفي من المؤشِّرات الموثوقة والمقاييس عن متى ستؤدي هشاشة الدولة إلى عنف المتطرفين ولا ما هو نوع التدخل الفعال والقابل للتطوير. ويجب على وزير الخارجية بلينكن أن يولي أولوية أكبر للبحث عن مقاييس ومقاربات لإعداد برامج تعتمد على البيانات.
- اتباع نهجاً كامل التمويل متعدد التخصصات لمكافحة التراسل الالكتروني
في السنوات التي تلت أحداث الحادي عشر من أيلول خاض صناع السياسات صراعاً منتظماً مع الدعاية الإرهابية. لكن مجيء وسائل التواصل الاجتماعي في السنوات التي تلت وواكبت صعود الدولة الإسلامية سنة 2014 مثَّلَت تحدِّيَاً مختلفاً عن التحديات التي واجهت صناع السياسة الأمريكيين من قبل. لقد كانت البروبوغاندا التي تقودها وسائل التواصل الاجتماعي من أساسيات استراتيجية الدولة الإسلامية بطريقة تفوَّقَت فيها على القاعدة. فصوّر التنظيم أفلاماً تبرز مشاهد بطولية من خط الجبهة ومن ثم استخدم وسائل التواصل الاجتماعي لنشر هذا الأفلام لتضليل الشباب في المنطقة وفي الغرب. ووجدت الولايات المتحدة نفسها في خِضَمِّ هذا النوع من المواجهة، وسعى مركز مكافحة التراسل لمواجهة الروايات الإرهابية، لكنه لم يتمكن من ذلك في أكثر الأحيان سواء على مستوى اتساع التراسل أو على مستوى الحِرِفِيَّة العالية، على سبيل المثال تصيُّد الجماعات الإرهابية من خلال حسابات وسائل التواصل الاجتماعي التابعة لوزارة الخارجية.
وفي 2015 كوَّنَت حكومة الولايات المتحدة فريقاً صغيراً من الخبراء في وسائل التواصل الاجتماعي والتراسل والتسويق وعلم البيانات لتصميم نهج أفضل لمعالجة هذه النقاط على وسائل التواصل الاجتماعي (وكنت قائد هذه المجموعة). أما المركز العالمي للمشاركة (GEC) فقد اتخذ مساراً مختلفاً، حيث رفض التراسل المباشر لصالح تحديد الأصوات المحلية المشروعة التي يمكنها التصدي للرسائل الإرهابية وتناميها وتضخُّمِها. رغم أن مركز المشاركة العالمي كافح منذ إنشائه، فقد واجهته تحديات في توظيف الخبراء المناسبين، وغالباً ما وقع ضحية بيروقراطية وزارة الخارجية التي لا تتسم بالمرونة والذكاء الذي يتطلبه مكافحة التراسل. ووسَّع القادة في الوزارة وفي الكونجرس من تفويض المركز العالمي للمشاركة ليشمل مواجهة التضليل الإعلامي الذي تقوم به روسيا وآخرون. لذا سعى مركز المشاركة العالمي لموازنة المهام المتعددة الكبيرة، وواجه تحديات كبيرة فيما يتعلق بالموارد.
كما أن الدعم الضخم الذي انصبَّ على جهود مكافحة التراسل خلال عهد أوباما تلاشى تقريباً في عهد ترامب. فخلال عامي 2015-2016 على سبيل المثال طوَّرَت إدارة أوباما سلسلة من الاجتماعات التقى خلالها عناصر قياديون في المجتمع، ومعلنون وصنّاع أفلام وخبراء تقنيون تلاقوا معاً لتطوير مقاربات أفضل لمكافحة التراسل. وسواء بسبب تَغيُّر ترتيب الأولويات بين الإدارتين أو النقص في الاهتمام من الفئات في الخارج بالعمل مع إدارة ترامب، فقد تلاشى تحالف الدعم الواسع إلى حد بعيد.
تغيّرت الأوضاع الآن عما كانت عليه سنة 2015، فقد تدهور وضع الدولة الإسلامية كثيراً، وقُتِل كبار قادة الدعاية فيها، ولم تعد تُقنِعُ سوى قلة من المتطرفين للذهاب إلى العراق وسورية للقتال أو لشن هجمات في أوطانهم. لكن الدولة الإسلامية أثبتت كم أنه من السهل دفع الشباب والشابّات الساخطين إلى التطرف والعنف في مجتمعات معيَّنة.
التطرف على الشبكة سيتواصل، سواء من خلال الدولة الإسلامية أو من خلال القاعدة، وخلفاؤهم أو من الجماعات المسلحة اليمينية العابرة للحدود. ويجب على إدارة بايدن أن تقوم بمراجعة شاملة للتراسل المخصص لمكافحة الإرهاب الحالي، وتقييم جهود التراسل المضاد التي يقوم بها شركاء الولايات المتحدة والمجلس الاقتصادي العالمي وكذلك وضع الدعاية الإرهابية الحالي على مختلف درجاتها. ويجب على الإدارة التأكد من أن مركز المشاركة العالمي يتلقى ما يكفيه من الموارد (لكافة مهامه) بحيث يتمكَّن من الاعتماد على فِرَق توظيف غير تقليدية لجلب خبراء من الخارج، وأن يوفّر لقيادة هذه الفِرَق الفسحة اللازمة لهم لتنفيذ مهامهم بخفة الحركة.
هنالك أيضاً بالتأكيد العديد من الأشياء التي يمكن لوزارة الخارجية القيام بها لتطوير المقاربات المدنية لمكافحة الإرهاب. على سبيل المثال: تصنيفات الإرهاب الأجنبي، العمل بالعقوبات، والجهود المبذولة لمنع تدفق المقاتلين الأجانب وإعادتهم لأوطانهم، والتنسيق مع كيانات الأمن الداخلي، والمهام الأخرى كلها ضرورية. لكن معالجة التغييرات الأكبر التي تطرقنا إليها آنفاً ستكون خطوات أولى نحو وضع الدبلوماسية والمعونات في القلب من سياسة مكافحة الإرهاب. وبعد نحو عقدين من المقاربات العسكرية لمكافحة الإرهاب، ربما يكون للولايات المتحدة أخيراً إرادة سياسية، وقيادة ومصادر لتحقيق هذه الرؤية.