لم تكن زيارة وزير الخارجية الإماراتي عبد الله بن زايد، إلى دمشق في التاسع من تشرين الثاني لهذا العام، أولى الخطوات التي تمهد الطريق للتطبيع مع نظام بشار الأسد وعودته لحضن الجامعة العربية، فقد سبقتها مكالمة هاتفية بين ولي عهد أبو ظبي وبشار في 20 / 10 / 2021، كما تواصل الأسد أيضاً مع ملك الأردن عبد الله الثاني في 3/10/2021 في أول اتصال علني منذ أكثر من عشر سنوات.
وقبل ذلك كانت الإمارات والبحرين قد أعادتا فتح سفارتيهما في دمشق نهاية 2018 على مستوى القائمين بالأعمال، فيما أعادت سلطنة عمان سفيرها إلى دمشق في تشرين الأول 2020، لتعيد تمثيلها الدبلوماسي على مستوى السفراء، هذا عدا عن اللقاءات والزيارات لمسؤولين من الدول العربية مع رموز نظام الأسد، كما حصل خلال اجتماعات الأمم المتحدة مؤخراً، حيث التقى وزير خارجية نظام الأسد فيصل المقداد، بوزراء خارجية تونس والجزائر والعراق وعُمان والأردن ومصر.
وتأتي هذه التحركات السياسية من قبل بعض الحكومات العربية، لتعكس عشوائية وتخبط الموقف السياسي العربي من الثورة السورية، فها هي الأنظمة العربية اليوم تسعى إلى إعادة علاقتها مع الأسد، متناسين المجازر التي ارتكبها النظام وما زال يرتكبها بحق الشعب السوري، والتي دعت وفق زعمها إلى قطع علاقاتها مع النظام وتجميد عضويته في الجامعة العربية ومنح المقعد السوري للائتلاف المعارض عام 2012.
كانت الأردن واحدةً من تلك الدول التي سارعت لإعادة العلاقات السياسية والاقتصادية مع حكومة بشار الأسد، وقد بدأ هذا التوجه يظهر للعلن بعد زيارة للملك الأردني إلى واشنطن في تموز الماضي ودعوة الرئيس الأمريكي جو بايدن لتخفيف عقوبات قيصر على سوريا، واستثناء الأردن منها. وعلى الرغم من عدم وجود أي تغيير ملحوظ في سلوك نظام الأسد كما اشترطت السلطات الأردنية وغيرها من الدول العربية لإعادة علاقاتها مع النظام الحاكم في دمشق، فقد أثبتت تطورات الأحداث السورية أن النظام الأردني وأشباهه من الأنظمة العربية هم من تغير سلوكهم لا نظام الأسد، فمع اقتراب الميليشيات الشيعية المدعومة إيرانياً من الحدود الأردنية وتشكيلها خطراً يهدد الأردن، لم يجد الملك الأردني وسيلة لمواجهة هذا الخطر سوى ملاطفته الأسد نفسه. كما أن تدهور الأوضاع الاقتصادية في الأردن كان الدافع الآخر للدفع بعجلة التطبيع بسرعة أكبر، ففتح معبر جابر الحدودي، واستأنف الرحلات البرية والجوية بين البلدين، وسمح بمرور خط الغاز المصري وإمدادات الكهرباء الأردنية إلى سوريا ثم لبنان، إضافة إلى إمكانية إعادة اللاجئين السوريين، تمثل – من وجهة النظر الأردنية – فرصاً حقيقية للنهوض ولو قليلاً بالواقع الاقتصادي المتدهور في المملكة.
أما الإمارات العربية وبعض دول مجلس التعاون الخليجي فقد تختلف دوافعها للتطبيع نسبياً، فهي ترى أن نظام الأسد قد “انتصر” بالحرب، ولا يمكن إسقاطه عسكرياً، بعد نجاحه في السيطرة على مناطق شاسعة من الجغرافيا السورية على حساب الفصائل الثورية، بالإضافة لوجود الحليفين الروسي والإيراني وتمسكهما به، فلجأت الإمارات لتحسين علاقتها مع نظام الأسد وتسهيل عودته للحضن العربي على أمل الحد من النفوذ الإيراني في جنوب سوريا، حيث أدركت عدم إمكانية تفكيك التحالف القائم بين النظام السوري وإيران.
كما لا يغيب العامل الاقتصادي عن قائمة الدوافع الإماراتية للتطبيع مع الأسد، فقد أعلنت وزارة الاقتصاد الإماراتية أنها وافقت على تعزيز التعاون الاقتصادي واستكشاف آفاق جديدة مع سوريا، وهي بذلك تهيئ موضع قدم للشركات الإماراتية في إعادة إعمار سوريا والاستثمار في مجال غاز المتوسط. ولعل العامل الأكثر أهمية بالنسبة للإمارات يتمثل في طموحُها بدور إقليمي وقيادي على مستوى المنطقة، عبر بناء شبكة من العلاقات والمصالح مع الدول الفاعلة والمؤثرة، وعلى رأسها روسيا والكيان الإسرائيلي الفاعلين في الملف السوري. أيضاً لا ننسى التخوفُ الإماراتي الكبير من تنامي الدورِ التركي شمالاً وصعودِ الإسلاميين للحكم والذي تسعى الإمارات إلى تقويضه منذ اللحظة الأولى لانطلاق شرارة الربيع العربي.
في مصر أيضاً، لم تنقطع العلاقات المصرية مع النظام الحاكم في دمشق منذ انقلاب السيسي 2013، وحرص نظام السيسي دوماً، على التنسيق السياسي والدبلوماسي، فضلاً عن زيارات أمنية غير معلنة، ربما تهدف للإبقاء على الأسد كقوة عسكرية مناهضة للثورات، وضم سوريا لمنتدى غاز المتوسط الذي أسسته مصر، وتدعمه الإمارات بعلاقاتها القوية مع اليونان وقبرص والقاهرة، حيث تعد محاصرة الدور التركي شرق المتوسط وفي شمال سوريا، أحد أهم دواعي تطبيع العلاقات المصرية مع نظام الأسد، هذا عدا عن الدوافع الاقتصادية كتمرير مشروع خط الغاز المصري الذي يمر بالأرض السورية، فبالرغم من التقارب التركي المصري، إلا أن مساحات الخلاف كبيرة وهناك صراع كبير على مناطق النفوذ بدءاً من الصومال إلى ليبيا وغاز المتوسط.
وهكذا تقود هذه الدول “الأردن – الإمارات – مصر” قطار التطبيع العربي مع نظام الأسد نيابة عن بقية الأنظمة العربية، ورغم اختلاف الأسباب التي تدفعها للمضي قدماً في إعادة العلاقات مع الأسد، إلا أنها جميعا تسعى لنتيجة واحدة، وهي إعادة تعويم نظام مستبد لم يدخر جهداً في القضاء على شعبه ومصادرة حريته. وبنظرة أكثر شمولية لدول الوطن العربي، فقد لا يختلف الوضع كثيراً عن الدول الثلاثة آنفة الذكر، ورغم وجود بعض الدول التي ترفض التطبيع وهم القلة القليلة كـ (قطر – السعودية)، تبقى الغالبية الأخرى متحمسة لإعادة الأسد إلى حظيرة الجامعة العربية، كما أن هناك دولاً طبعت بالفعل علاقاتها مع الأسد بغض النظر عن موافقة الجامعة أو رفضها كـموقف عربي موحد من القضية السورية، مثل (سلطنة عمان – البحرين -الأردن – موريتانيا، بالإضافة للإمارات). وتدعو بعض الدول الأخرى لعودة الأسد إلى المقعد السوري في الجامعة العربية (الجزائر _ مصر _ العراق _ لبنان).
مواقف الدول العربية من عودة نظام الأسد إلى المقعد المخصص لسوريا في الجامعة العربية.
ختاماً، انطلقت رؤية بعض الحكومات العربية في التعامل مع الثورة السورية من مبدأ “مكيافيلي” – الغاية تبرر الوسيلة -، فخلت من الأخلاق والقيم مقابل المصالح الاقتصادية والسياسية، ولربما غاب عن الدول المطبعة أن المصالح الحقيقية لم ولن تكون يوماً مرتبطة بالحكومات المستبدة، فنظام الأسد ولو حقق نصراً عسكرياً، إلا أنه نصر هش لن يطول بقاؤه أمام الأزمات الاقتصادية والاجتماعية التي تهدده، ولعل في الحكومة الأفغانية السابقة وعلى رأسها “أشرف غني” الذي تؤويه دولة الإمارات اليوم على أرضيها خير دليل على أن المصالح الحقيقية ستبقى مرتبطة بالشعوب الثائرة ومن يمثلها حقاً.